مثل المنافقين
قال الله عز وجل في صفة المنافقين :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدير ﴾(البقرة: 17- 20)
أولاً- هذان مثلان ضربهما الله تعالى للمنافقين ، ومناسبتهما لما قبلهما أن الله سبحانه لمَّا أخبر في أوائل سورة البقرة عن أحوال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم ، وبيَّن حقيقة مواقفهم ، وكشف عن مكنون صدورهم ، وفضح نفاقهم ، أراد سبحانه وتعالى أن يكشفَ عن تلك الأحوال والمواقف كشفًا تامًّا ، ويبرزَها في معرض المحسوس المشاهد ، فأتبعها بضرب هذين المثلين ، زيادة في التوضيح والتقرير ، ومبالغة في البيان . وهما في الحقيقة مثلان لكلِّ من آتاه الله ضربًا من الهدى ، فأضاعه ولم يتوصلْ به إلى نعيم الأبد ، فبقيَ متحيِّرًا متحسِّرًا يخبط في ظلمات الجهل والضلال ، ويدخل في عمومهما أولئك المنافقون ؛ فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره ، حين خلوا إلى شياطينهم وكانوا غالبًا من أحبار اليهود الذين كانوا يجدون في المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته ؛ كما أن المنافقين كانوا يجدون فيهم سندًا لهم وملاذًا .
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾(البقرة: 14)
أولئك المنافقون هم الذين ضرب الله تعالى لهم هذين المثلين اللذين يصوران حقيقة أحوالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويكشفان عن مكنون صدورهم ، ويفضحان نفاقهم ، ويرسمان ما كان يتولَّد في نفوسهم عند سماعهم القرآن من قلق واضطراب ، وذعر وخوف ، وحسرة وحَيْرة ، وتِيهٍ وضلال ، نتيجة كذبهم وخداعهم ، واستهزائهم وتآمرهم .
واختلف المفسرون على قولين : هل المثلان مضروبان للمنافقين كلهم ، أو الأول منهما مضروب لبعضهم ، وهم الذين آمنوا ثم كفروا ، والثاني مضروب لبعضهم الآخر ، وهم الذين لا يزالون على نفاقهم ، مترددين بين الإيمان والكفر ؟ قولان : الثاني منهما اختيار ابن كثير ، وإليه ذهب الشيخ ابن تَيْمِيةَ ، فقال في ( مجموع الفتاوى ) ما نصُّه :« والثاني هو الصواب ؛ لأنه قال :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ ﴾ ، و﴿ أَوْ ﴾ إنما يَثبُت بها أحد الأمرين ، فدل ذلك على أنهم : مثلهم هذا ، أو هذا . فإنهم لا يخرجون عن المثلين ؛ بل بعضهم يشبه هذا ، وبعضهم يشبه هذا . ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين ، لم يذكر { أَوْ } ؛ بل يذكر { الواو } العاطفة » .
وتحدَّث الشيخ ابن قيِّم الجوزيَّة في كتابه ( اجتماع الجيوش الإسلامية ) عن أقسام المنافقين ، فقال :« وهم قسمان : أحدهما : من أبصر ثم عمي ، وعلم ثم جهل ، وأقر ثم أنكر ، وآمن ثم كفر ، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وساداتهم وأئمتهم ، ومثلهم مثل من استوقد نارًا ، ثم حصل بعدها على الظلمة . والنوع الثاني : ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق ، فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته ، وأصم أذنهم صوت الرعد ، فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ، ولا يقربون من سماع القرآن والإيمان ؛ بل يهربون منه ، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد ، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه » .
وإلى نحو هذا القول الذي ذهب إليه الشيخان : ابن تيمية ، وابن قيِّم الجوزيَّة- رحمهما الله- ذهب المرحوم الشيخ حسن حبنَّكة الميداني ، فقال في كتابه ( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ) معقِّبًا على المثلين السابقين ما نصُّه :« في هذا النص مثلان ضربهما الله لمجموع المنافقين ، ولدى تحليلهما بنظراتٍ ثاقباتٍ ، يتبين لنا أنهما يدلان على أن المنافقين صِنفان ، وأن كلَّ مثل منهما يُلقي الضَّوءَ على صنف من صِنفَيْ المنافقين .
فالمثل الأول منهما تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الأشدِّ من صنفي المنافقين ، وهو الصنف الذي مَرَدَ على النفاق بعد رؤيته أضواءَ هداية القرآن ، وسماعه إنذارات عذاب الله للكافرين . ولما مرَدَ على النفاق ملتزمًا الثبات في موقع الكفر ، طمس الله بصيرته بقانونه القدري .
والمثل الثاني منهما تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الثاني المذبذب الذي ما زال مترددًا محتارًا بين الإيمان والكفر ، وهو إلى الثبات في موقف الكفر أقرب . فهذا لم يطمس الله بصيرته ؛ إمهالاً له ، وليمنحه آخر نقطة في كأس بصيرته ، ولو شاء الله لطمس بصيرته ، حكمًا عليه بالجانب الغالب الأرجح من واقعه ؛ لكنه سبحانه لم يشأ ذلك رحمة به » . ثم ذكر أن { أو } التي تتوسَّط بين المثلين للتقسيم في التمثيل المناظر للقسمين اللذين ينقسم إليهما المنافقون ؛ مثلها في قولنا : الكلمة : إما فعل ، أو اسم ، أو حرف . وكان من قبلُ قد نفى أن تكون { أَوْ } هذه للتنويع في ضرب المثل .
وقوله رحمه الله :« ولدى تحليلهما بنظراتٍ ثاقباتٍ ، يتبين لنا أنهما يدلان على أن المنافقين صِنفان .. » يشعر بأنه هو صاحب هذا القول ، وأن المثلين على غاية من التعقيد ، وسنرى بعد قليل أن الأمر أيسر بكثير من أن يحتاج إلى تحليل ، لا بنظرات ثاقبات ، ولا بغير ثاقبات .
أما المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ، حين جعل المثلين موزعين على طائفتي الكافرين والمنافقين ، نَشْرًا على ترتيب اللَّفِّ ، فقال في كتابه ( النبأ العظيم ) ما نصه :« مضى جمهور المفسرين على أن قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ ﴾(البقرة: 16) مشار به إلى أقرب الطائفتين في الذكر ، وهم المنافقون ؛ ولكن المروي عن ابن عباس ، وابن مسعود- رضي الله عنهم- أنه راجع إلى الكفار مطلقًا ، وهذا الذي عوَّلنا عليه ؛ لأنه أقعد في المعنى ، وفي النظم .. أما في المعنى فلأنه لا واسطة بين الهدى ، والضلالة . وإذا كانوا كلهم عن الهدى ناكبين ، وفي الضلالة مشتركين ، فتخصيص الإشارة بالبعض ، مع إمكان رجوعها إلى الجميع صريحًا ، تخصيص بغير موجب .. وأما في النظم فلأن تناولها للطائفتين يتِمُِّ به حسنُ المقابلة بين الإشارتين في قوله :﴿ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ﴾(البقرة: 5) , وقوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة: 16) .. ثم به يتِمُّ جمالُ الصنعة في تفريق الأقسام ، ثم جمعها ، ثم تفريقها ، ثم جمعها ، فقد رأيت ، يفرِّق بين الطائفتين في أوصافهما الخاصة ، ثم يجمعهما في هذا الوصف المشترك ، وستراه يعود إلى تفريقهما في ضرب الأمثال ، ثم يجمعهما مرة أخرى مع سائر العالم في النداء الآتي :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21) » .
هذا ما قاله الشيخ دراز- رحمه الله- في محاولة منه لإقناع القارىء بصحة ما ذهب إليه من أن المراد بالمثل الأول : طائفة الكافرين ، وأن المراد بالمثل الثاني : طائفة المنافقين ؛ ولكنه أهمل من هذا الذي سماه :« تفريقًا ، ثم جمعًا ، ثم تفريقًا ، ثم جمعًا ، نشرًا على ترتيب اللف » ، أقول : أهمل طائفة المؤمنين التي جاءت الإشارة إليها بقوله تعالى :﴿ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ﴾(البقرة: 5) ، هذه الإشارة التي تمَّ بها- كما قال- حسنُ المقابلة بينها ، وبين الإشارة إلى طائفتي الكافرين والمنافقين بقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة: 16) ، والتي تدخل جميعًا تحت النداء :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21) .
ولو كان الكلام نشرًا على ترتيب اللف- كما قال- لوجب أن يؤتَى أولاً بمثل للمؤمنين ، ثم يتبَع ثانيًا بمثل ثان للكافرين ، وثالثًا بمثل ثالث للمنافقين . وهذا ما يتطلبه أسلوب التفريق ، ثم الجمع ، ثم التفريق ، ثم الجمع . هذا أولاً . وأما ثانيًا فإن الشيخ دراز- رحمه الله- إذا كان قد عوَّل في ذهابه هذا المذهب- كما قال- على المروي عن ابن عباس ، وابن مسعود- رضي الله عنهم- أن قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة: 16) راجع إلى الكفار مطلقًا ، فإن المروي عنهما- أيضًا- وعن مجاهد أنه نزل في المنافقين .
ثم إذا ثبت عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن المشار إليهم في الآية السابقة هم الكفار مطلقًا ، فإنه كان يعني بالكفار : المنافقين . أو المنافقين واليهود ، بدليل أنه قال في تفسير المثل الأول :« مثل المنافقين مع محمد صلى الله عليه وسلم كمثل الذي أوقد نارًا في ظلمة ؛ لكي يأمن بها على أهله وماله ونفسه ، فلما استضاءت ورأى ما حوله وأمَّن بها على نفسه وأهله وماله ، طفئت ناره ؛ فكذلك المنافقون آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن .. » . ثم قال في تفسير المثل الثاني:« مثل المنافقين واليهود مع القرآن كمطر نزل من السماء ليلاً على قوم في مفازة ، في الليل ظلمات ورعد وبرق ؛ كذلك القرآن نزل من الله فيه ظلمات بيان الفتن ، ورعد زجر وتخويف ، وبرق بيان وتبصرة ووعد ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من صوت الرعد مخافة البوائق والموت ؛ كذلك المنافقون واليهود كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق من بيان القرآن ووعده ووعيده حذر الموت ، مخافة ميل القلب إليه » .
هذا نصُّ ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو الثابت عنه . والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا : كيف يعوِّل الباحث منَّا على المروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- من أن الآية نزلت في الكفار مطلقًا ، ثم يبني عليه كلامًا في تفسير هذين المثلين ، متجاهلاً بذلك ما ثبت وصح عنه من أن المراد بالمثلين عنده : المنافقين . أو المنافقين واليهود ؟
ثم إن جمهور المفسرين مجمعون على القول بأن المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر ، فجاءت آيات الله سبحانه تفضح نفاقهم ، وتكشف عن حقيقتهم ، وتحذر من خطرهم على المسلمين ، وعلى الكافرين معًا ، دون استثناء ؛ ومن هذه الآيات قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾(المنافقون: 1- 3) . وقوله :﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾(الحشر: 11) .
ولفظ { المنافقين } يشمل المنافقين من العرب ، واليهود ، والنصارى ؛ كما أن لفظ { الكافرين } يشملهم جميعًا . ثم إن سلمنا بأن المراد بالمثل الأول طائفة الكافرين دون غيرهم ، فكيف يذهب الله سبحانه بنور قوم ، لم يكن لديهم نور أصلاً ؟! فأولئك القوم الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾(البقرة: 7) لم يعقلوا الإسلام ، ولا دخلوا فيه ، ولا استناروا بنوره ، حتى يعاقبهم الله تعالى بذهاب نورهم ؛ لأنه لا نور لهم أصلاً . ويبين لك ذلك أن الله تعالى جعل على قلوبهم وأسماعهم خَتْمًا كختم الطين على الجرَّة ؛ ليكون لها مانعًا يمنعها من ألَّا يدخل فيها شيء ، أو يخرج منها شيء ، وجعل على أبصارهم غشاوة ؛ لتكون مانعة لها من الرؤية منعًا لا يكون معه إلا العمى ، هؤلاء القوم هم الكافرون عباد الأصنام والأوثان . أما المنافقون الذين كفروا بعد إيمانهم فقد جعل الله تعالى على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم طابعًا ، يمنعها من الفهم والسماع والإبصار منعًا لا يرقى إلى المنع بالختم والغشاوة ؛ كما يبين ذلك قوله تعالى :
﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ (النحل: 106- 108)
ولهذا كان كلٌّ من الختم والغشاوة مانعًا من الإيمان ، بخلاف الطبع . والدليل على الأول قوله تعالى :﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾(البقرة: 6) . والدليل على الثاني قوله تعالى :﴿ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾(النحل: 108) ، فأخبر سبحانه عن الكافرين على سبيل القطع والجزم أنهم ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ سواء أنذروا ، أم لم ينذروا . أما المنافقون الذين كفروا بعد إيمانهم فقد وصفهم سبحانه بالغفلة ، كما وصفهم بعدم العلم في قوله :﴿ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(التوبة: 93) ، ووصفهم بعدم الفقه في قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾(المنافقون: 3) .
ومن مُنِع من الشيء لا يوصف بأنه غافل لا يعلم شيئًا ، ولا يفقه حديثًا ، بخلاف من يوصف بأنه لا يعقل .. فتأمل ذلك ، ثم تأمل قوله تعالى كيف وصف الكفار بقوله :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾(الأنفال: 22) ، فقال سبحانه :﴿ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ، ولم يقل :﴿ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُونَ ﴾ ، أو :﴿ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ كما قال ذلك في وصف المنافقين !
ثم إذا كان الله تعالى قد وصف المنافقين في المثل الأول بأنهم :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾(البقرة: 18) ، ووصف الكافرين بهذا الوصف نفسه في المثل الذي شبههم فيه بالبهائم ؛ وهو قوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾(البقرة: 171) ، فإنه سبحانه قد ميَّز بين الفريقين بقوله في حق المنافقين : ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ ، وقوله في حق الكافرين :﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ، فسلب الرجوع عن المنافقين ؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا ، وفارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به ، واستناروا بنوره ، فهم لا يرجعون ، ما داموا على هذه الحال . وسلَب العقل عن الكفار ؛ لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان .
ثم إذا كان ظاهر قوله تعالى في الموضعين :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ يوحي بأنهم متصفون بالصمم والبكم والعمى ، فإن الله تعالى قد بيَّن في موضع آخر أن معنى صممهم وبكمهم وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم وقلوبهم وأبصارهم ؛ وذلك في قوله جلّ وعلا :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾(الأحقاف: 26)
فثبت بذلك أنه لا وجه للمقارنة بين قوله عز وجل في حق الكافرين :﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ ، وقوله في حق المنافقين :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ . فهؤلاء المنافقون لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصمُّوا آذانهم عن السماع , وعيونهم عن الرؤية ، وقلوبهم عن الإدراك ؛ كما فعل الكافرون .
ثم إن هؤلاء المنافقين بإظهارهم الإيمان ، وإبطانهم الكفر كانوا- وما زالوا- أشدَّ خطرًا على الإسلام والمسلمين من الكافرين ، الذين لم يؤمنوا . ويبيِّن ذلك أن الله سبحانه نبَّه على صفاتهم ؛ لئلا يغترَّ المؤمنون بظاهر أمرهم ، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار أن يُظََنَّ لأهل الفجور خير ، فقال تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾(البقرة:
. أي : يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر ، فكذبهم الله تعالى ، ثم شرع يعدد صفاتهم ، ويفضح نفاقهم ، ويكشف عن زيغهم ، وفساد قلوبهم ، ويرد عليهم أقوالهم ، وانتهى سبحانه من ذلك كله إلى القول :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ﴾(البقرة: 16) ، مشيرًا بذلك إلى المنافقين الذين كفروا بعد أن نطقوا بكلمة الإيمان . ولو لم يكونوا كذلك ، لما تمكنوا من عقد هذه الصفقة الخاسرة الغبية التي بذلوا فيها الهدى الذي هو رأس مالهم ثمنًا للضلالة ، فأضاعوا بذلك كلتا الطلبتين ؛ لأن المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الربح ، ولئن فات الربح في صفقة ، فربما يتدارك في صفقة أخرى لبقاء الأصل . وأما إتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعًا ؛ ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله :﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين ﴾(البقرة: 16) . أي : ما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الصحيحة ، فضلوا بذلك سواء السبيل ؛ وذلك هو الخسران المبين . وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل- كما أسلفنا- على أن النفاق هو بؤرة الخطر ، وأن المنافقين يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الإسلامي أكثر مما يشكل الكافرون ؛ ولهذا ضرب الله تعالى لهم هذين المثلين :
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. ﴾
فليس بعد هذا البيان لأحد أن يدَّعي أن المثل الأول من هذين المثلين مضروب للكفار من غير المنافقين ، وأن الثاني مضروب للمنافقين . أو أن الأول مضروب لبعض المنافقين ، وأن الثاني مضروب لبعضهم الآخر ؛ لأن المنافقين ، وإن كانوا قسمين : أئمة وسادة مردوا على النفاق ، وأتباع لهم كالبهائم والأنعام ، وإن هؤلاء الأتباع أنواع وأنواع ، فإن الأوصاف التي ذكرت في الآيات السابقة لهذين المثلين هي أوصاف رؤوس النفاق ، لا أوصاف أتباعهم ، وإن كانت تشملهم جميعًا ، فليس في اللفظ ما يشير لا من بعيد ولا من قريب إلى أن المنافقين قسمان .
أما ﴿ أَوْ ﴾- هنا- فهي التي تدل على أحد الشيئين المذكورين معها ، فدلَّ وجودها على أن المنافقين مثلهم هذا ، أو هذا ، فإنهم لا يخرجون عن المثلين ؛ ولكن ليس على معنى : أن بعضهم يشبه هذا ، وبعضهم يشبه هذا- كما قال ابن تيمية وابن قيِّم الجوزيَّة- بل على معنى : كلهم يشبه هذا ، أو يشبه هذا . فهم طائفة واحدة ، ولهم حالان ، وهذان الحالان مختلفان ، والله تعالى ضرب لكل حالة منهما مثلاً يصوِّرها فيه بصورة محسوسة ، زيادة في التوضيح والتقرير ، ومبالغة في البيان .
وهذا ما ذهب إليه ابن قيِّم الجوزية في قول آخر له ، ذكره في كتابه ( بدائع الفوائد ) ، وذلك في معرض ردِّه على من ذهب إلى أن { أَوْ } للإباحة ، فقال في ذلك ما نصُّه :« أما قوله :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين ، في حالتين مختلفتين ، فهم لا يخلون من إحدى الحالتين ، فـ{ أَوْ } على بابها من الدلالة على أحد المعنيين . وهذا كما تقول : زيد لا يخلو أن يكون في المسجد ، أو الدار . ذكرت { أَوْ } ؛ لأنك أردت أحد الشيئين ، وتأمل الآية بما قبلها ، وافهم المراد منها ، تجد الأمر كما ذكرت لك ، وليس المعنى : أبحت لكم أن تشبهوهم بهذا ، وهذا » .
وعليه يكون التقسيم في المثلين لتنوع الأحوال ، لا لتنوع الأشخاص ؛ ولهذا عطف الثاني على الأول بـ{ أو } الفارقة التي تؤذن بتساوي المثلين في استقلال كل منهما بوجه الشَّبَه ، وبصحة التمثيل بكل واحد منهما ، وبهما معًا ، لا بتساويهما في التمثيل ، بخلاف { الواو } الجامعة .
والمثلان هما من الأمثال المعيَّنة التي يقاس فيها الفرع المعيَّن بأصل معيَّن ، وهما من جنس قياس التمثيل الذي يقوم على التشبيه ، لا الاستعارة ؛ لأن فيهما ذكر المشبه ، والمشبه به ، وأداة التشبيه . والتشبيه قياس ، والقياس يجري فيما تعيه القلوب وتدركه العقول وتُستفتَى فيه الأفهام والأذهان ، لا الأسماع والآذان .
ثانيًا- أما المثل الأول فهو قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ ، وهو مثلٌ يصَوِّر الله تعالى فيه حقيقة أحوال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومواقفهم منه بصورة طائفة من الناس مع الذي استوقد نارًا في ليلة مظلمة . فلما حصل لهم نور من ضوء تلك النار ، ذهب الله بنورهم ، وتركهم يخبطون في ظلمات بعضها فوق بعض ؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور ، والضلالة على الهدى .. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي حالهم التي أخبر الله تعالى عنها في مطلع سورة المنافقين ؛ إذ قال سبحانه :﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾(المنافقون: 1- 3) .
فهؤلاء المنافقون ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. ﴾ . أي : مثلهم يشبه هذا المثل ، و﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ مشبَّه وهو فرع ، و﴿ مَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ مشبَّه به وهو أصل ، قيس عليه الفرع ، وكلاهما معنى معلوم موجود في الذهن : الأول معقول ، والثاني محسوس ، وما بينهما وجه شبه دلت عليه كاف التشبيه . ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف ، لكان بين المثلين تماثل ، أو تطابق في تمام الأحوال والصفات ؛ لأن التقدير حينئذ يكون : مثلهم مثل الذي استوقد نارًا ؛ ولكن دخول الكاف على لفظ المثل حصَّن المعنى من هذا التأويل الذي ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين ، حين حكموا على هذه الكاف بالزيادة .
وننظر فيما بين المثلين من وجه شبَه ، فنرى في المثل الأول- وهو المشبه- أن المنافقين كانوا في زمرة الكافرين ، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، واتخذوا هذا الإيمان ، جُنـَّة يتَّقون بها يد المؤمنين ، إذا هي علَت على الكافرين ، وأنزلتهم على حكمهم ، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيء الله على المؤمنين من خير ، فكان أن فضح الله نفاقهم ، وجاءت آياته تنزع عنهم ذلك الثوب الذي ستروا به هذا النفاق . ونرى في المثل الثاني- وهو المشبه به- أن الذي استوقد نارًا كان واحدًا في جماعة ، في ليل شديد الظلمة ، فاستوقد نارًا . أي : طلب أن توقد له . ولما أوقدت النار ، وأضاءت ما حوله ، واجتمع القوم على ضوئها الذي بدَّد بنوره ظلام الليل الحالك ، ذهب الله تعالى بنور طائفة مخصوصة منهم ؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور ، فلم يرَوا ما حولهم ، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون ، فركبتهم الحَيْرة ، وقيَّدهم العمى والضلال ؛ كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقرأ قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فنجد فيه لمحة من لمحات الإعجاز البياني .. نجدها في هذا التخالف بين أجزاء الصورة في المشبه به ، حيث كان الظاهر أن يقال :{ مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا ، فلما أضاءت ما حولهم ، ذهب الله بنورهم } ، وبذلك يتم التطابق بين أجزاء الصورة في المشبَّه ، والمشبَّه به ؛ ولكن جاء النظم المحكم في الآية الكريمة على خلاف هذا الظاهر . وللنحاة والمفسرين في تأويل ذلك والتعليل له أقوال :
أولها : أن ﴿ الَّذِي ﴾- هنا- مفرد في اللفظ ، ومعناه على الجمع ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فحُمِل أول الكلام على الواحد ، وآخره على الجمع .
والثاني : إنما وُحِّد ﴿ الَّذِي ﴾ ، وما بعده ؛ لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة ، تولَّى الإيقاد لهم ، فلما ذهب الضوء ، رجع عليهم جميعًا .
والثالث : أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد ؛ وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد .
والرابع : أن جواب ﴿ فلَمَّا ﴾ محذوف للإيجاز ، تقديره : خمدت ، وأن قوله تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل .
والأقوال الثلاثة الأولى مبنية على أن جواب ﴿ فلَمَّا ﴾ هو قوله تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، وهو قول الجمهور . وكونه جواب ﴿ فلَمَّا ﴾- كما قال أبو حيَّان- هو الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه ، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتُّب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة ، كان ذلك من باب اللغز ؛ إذ تركت شيئًا يبادر إلى الفهم ، وأضمرت شيئًا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه ؛ إذ لا يدل على حذفه اللفظ ، مع وجود ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ . وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله ، وكلام الله تعالى لا ينبغي أن يفسَّر بغير ما يحتمله ، ولا أن يزاد فيه أو ينقص منه ؛ بل يكون التفسير طبق المفسَّر ، من غير زيادة عليه ، ولا نقص منه . ومن هنا كان القول بحذف الجواب ضعيفًا لا ينبغي الركون إليه ، وأما الأقوال الأخرى فهي لا تخلو من التكلف ؛ لما فيها من إخلال بنظم الكلام ، وإفساد لمعناه ، حيث تقضي بما صدر عنها من أحكام على ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ، فتذهب بنوره الذي رفعه لهداية الناس ، وحيث تقع تلك الأحكام على غير المنافقين ، من طالبي الهدى عنده ، والصورة التي رسمتها الآية الكريمة تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم ، فتحرمهم الإفادة من هذا النور الذي ملأ الوجود من حولهم ، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى .
وأنت إذا تأملت الآية الكريمة ، وجدت المعنى- على ما ذكرنا- أن ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ كان واحدًا في جماعة معه ، استدعى إيقاد النار لهم . أي : طلبه ، وسعى في تحصيله . فلما أوقِدت له النار وأضاءت ما حوله واجتمع القوم على ضوئها وحصل لهم نور من تلك النار ، ذهب الله بنور طائفة مخصوصة منهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون .. كذلك كان شأن المنافقين وحالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث هدًى ورحمة للعالمين ، كذبٌ ونفاق وخداعٌ وإفساد واستهزاء ، فكان أن وقعوا في ضلالتهم التي اشتروها بالهدى ، وخبطوا في مستنقع الحيرة التي أدهشتهم .
وبذلك يكون التشبيه في هذا التمثيل بين مثل المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل تلك الطائفة المخصوصة التي ذهب الله تعالى بنورها مع مستوقد النار لجماعته ، فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به ، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه ، وقد طُوِيَ ذكرُ كل منهما اعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه ، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه . وهذا من ألطف أنواع البديع وأبدعها .
وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على مثل الطائفة التي ذهب الله بنورها كما يقتضيه ترتيب الكلام ؛ لأن مثلها هو المقابل لمثل طائفة المنافقين ، فيقال :{ مثلهم كمثل الذين اجتمعوا على نار المستوقد . فلما أضاءت ما حوله ، ذهب الله بنورهم } ؛ ولكن خولِف هذا النظم لفائدة جليلة ، وهو تقديم ما هو أهم ، والأهم هنا هو :﴿ مَثَل الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ؛ إذ هو مَثلٌ للرسول صلى الله عليه وسلم . ومِثلُه في التقديم لأهميته تقديم { الصيِّب } على جماعته في التمثيل الثاني :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ، وكان حق الكلام أن يقال : أو كجماعة صيِّب من السماء ، فقدِّم الصيِّب على الجماعة ؛ لأنه مَثلٌ للقرآن الكريم !
وقد جاء النظم في الآية حسب ما يقتضيه ترتيب الكلام في القراءة المنسوبة إلى ابن السميقع ، فقد روي عنه أنه قرأ :﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ، بجمع الموصول ﴿ الَّذِينَ ﴾ وتوحيد صلته ﴿ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ ، وهي- على ما قيل- قراءة مشكلة ، ومن أحسن ما قيل في تخريجها : هو أن يكون الفاعل في ﴿ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ عائدًا على اسم الفاعل المفهوم من ﴿ اسْتَوْقَدَ ﴾ ، وتقديره : استوقد هو نارًا . أي : المستوقد . أي : كمثل الذين استوقد المستوقد لهم نارًا ، فيكون كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾(يوسف: 35) . أي : بدا هو . أي : البَداءُ المفهوم من الفعل ؛ وذلك على أحد التأويلات في الفاعل في الآية . وعليه يكون في العائد على ﴿ الَّذِينَ ﴾ وجهان :
أحدهما : أن يكون قد حذف ، وأصله : لهم . أي :{ استوقد لهم المستوقد } . والثاني : أن تكون جملة ﴿ اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ الواقعة صلة لا عائد فيها ؛ لكن عطف عليها جملة بفاء التعقيب ، وهي الجملة الشرطية :﴿ لََمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، وفيها عائد على ﴿ الَّذِينَ ﴾ ، وهو ضمير الجمع في قوله تعالى :﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر . وعلى هذه القراءة يكون تقدير الكلام :
{ مثلهم كمثل الذين استوقد المستوقد لهم نارًا ، فلما أضاءت ما حولهم ، ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون } .
ومن الواضح أن المعنى- على هذه القراءة التي وُصِفتُ بأنها مشكلة- هو أوفى منه على القراءة المشهورة في بيان المراد . وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة على القراءتين يكون ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكون الطائفة التي ذهب الله بنورها المخبر عنها بقوله تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ مثلاً لطائفة المنافقين .
وممَّا يستأنس به- هنا- ما رواه الشيخان في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله :« إنما مَثلي ومَثل أمتي كمَثل رجل استوقد نارًا ، فجعلت الدوابُّ ، وهذه الفراش ، يقعْن فيها ، فأنا آخذٌ بحِجْزكم ، وأنتم تُقحَمون فيها » ، فمثَّل- عليه الصلاة والسلام- نفسه برجل استوقد نارًا ، ومثَّل الناس الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ التي تقع في النار .
وعلى ما تقرَّر يكون قوله تعالى :﴿ اسْتَوْقَدَ ﴾ دالاً على الطلب ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه بمعنى :{ أوقد } . وأما ما احتجُّوا به من أن جعله للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى ، وأن إضاءة النار لا تتسبب عن الطلب ؛ وإنما تتسبب عن الاتقاد فليس هذا بشيء ؛ لأنه مبنيٌّ على أن معنى ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ :{ الذين استوقدوا نارًا } ، وأن المراد به المنافقون .
فليس من الصواب في شيء بعد هذا البيان أن يقال : إن ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ هو مثلٌ للمنافق ، وإن ناره التي استوقدها قد خمدت ، وإن نفاقه كان سببًا في إذهاب نوره ؛ إذ كيف يكون منافقًا من أضاء بناره الوجود ، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين ؟ وكيف يحكم على نوره بالذهاب ، وعلى ناره التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء .. هذه النار التي أوقدها الله تعالى ؛ ليهتدي بنور ضوئها كلُّ موجود في هذا الوجود ؟!
ونقرأ قوله تعالى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فنجد فيه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز البياني ، حيث كان الظاهر أن يقال :﴿ أذهب اللهُ نُورَهُمْ ﴾ ، وكذا قرأه اليمانيُّ . أو يقال :﴿ ذَهَبَ اللهُ بِنارِهِمْ ﴾ ، أو :﴿ بِضَوْئِهِمْ ﴾ ؛ ولكنَّ الله تعالى لم يقل هذا ، ولا ذاك ؛ وإنما قال :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة ، لا مجازًا ؛ إذ هو فاعل الأشياء كلها ، واختار النور على النار وضوئها .
أ- أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فقيل : للدِّلالة على المبالغة ؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء دون الهمزة ، ولِمَا في الباء من معنى الاستصحاب والاستمساك ؛ لأنها وإن كانت هنا للتعدية ، إلا أن معناها الذي لا يفارقها أبدًا ، هو الإلصاق . وهذا المعنى غير موجود في الهمزة .. وبيان ذلك :
أنه إذا قيل : أذهبَ فلانٌ الشيءَ ، فمعناه : أزاله من الوجود ، وجعله ذاهبًا . ومنه قول الله عز وجل :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ﴾(النساء: 133) . فإذا قيل : ذهبَ فلانٌ بالشيء ، فُهِمَ منه : أنه استصحبه معه ، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى التي كان عليها ؛ وكأنه التصق به التصاقًا . ومنه قول الله عز وجل :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ﴾(يوسف: 15) ، ﴿ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ ﴾(المؤمنون: 91) . والمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، ﴿ وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ ﴾(فاطر: 2) ؛ فهو أبلغ من الإذهاب » .
والجمهور على القول بأن الباء في :﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ للتعدية ، وأنها مرادفة للهمزة . فإذا قلت : خرجت بزيد ، فمعناه : أخرجت زيدًا ، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت . والذي عليه المحققون من أهل اللغة أنك إذا قلت : خرجت بزيد ، دلَّ على أنك خرجت ، وأخرجته . وإذا قلت : أخرجت زيدًا ، لم يلزم أنك خرجت . ففرَّقوا بين الباء ، والهمزة في التعدية . وذهب الشيخ السُّهيليُّ إلى أن القول بمرادفة الباء للهمزة ، وأنهما في حكم التعدية سواء ، هو من تساهل النحويين ، ثم قال :« ولو كان ما قالوه أصلاً ، لجاز في : أمرضته ، أن تقول : مرضت به . وفي أسقمته ، أن تقول : سقمت به . وفي أعميته ، أن تقول : عميت به ، قياسًا على : أذهبته ، وذهبت به . ويأبى الله ذلك والعالمون ؛ فإنما الباء تعطي مع التعدية طرفًا من المشاركة في الفعل ، لا تعطيه الهمزة . فإذا قلت : قعدت به ، فمعناه جعلته يقعد ؛ ولكنك شاركته في القعود ، فجذبته بيدك إلى الأرض ، أو نحو ذلك ، فلا بد من طرف من المشاركة ، إذا قعدت به ، ودخلت به ، وذهبت به ، بخلاف أدخلته وأذهبته » .
واستطرد الشيخ السُّهيليُّ قائلاً :« فإن قلت : فقد قال الله سبحانه :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، ﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ ، ويتعالى سبحانه عن أن يوصف بالذهاب ، ويضاف إليه طرف منه ؛ وإنما معناه : أذهب نورهم وسمعهم . قلنا : في الجواب عن هذا : إن { النور والسمع والبصر } كان بيده سبحانه ، وقد قال :{ بِيَدِهِ الْخَيْرُ } ، وهذا من الخير الذي بيده . وإذا كان بيده ، فجائز أن يقال : ذهب به ، على المعنى الذي يقتضيه قوله سبحانه :﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾(آل عمران: 26) ، كائنًا ما كان ذلك المعنى . فعليه ينبني ذلك المعنى الآخر الذي في قوله :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ مجازًا كان ، أو حقيقة . ألا ترى أنه لما ذكر الرجس ، كيف قال :﴿ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾(الأحزاب: 33) ، ولم يقل :{ يُذْهِبَ به } . وكذلك قال :﴿ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ﴾(الأنفال: 11) ، تعليمًا لعباده حُسْنَ الأدب معه ، حتى لا يضاف إلى القدوس سبحانه ، لفظًا ومعنى ، شيء من الأرجاس ، وإن كانت خَلْقًا له ، ومُلْكًا ؛ فلا يقال : هي بيده ، على الخصوص ، تحسينًا للعبارة ، وتنزيهًا له » .
وأما من استدل على أن الباء مرادفة للهمزة بقراءة اليماني :﴿ أذهب اللهُ نُورَهُمْ ﴾ ، وبأنه لا يجمع بينهما ، فلا يقال :{ أذهب الله بنورهم } فيُرَدُّ عليه بقراءة ابن أبي عبلة :﴿ لأذْهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ ﴾(البقرة: 20) ، وبقراءة أبي جعفر وشيبة :﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ ﴾(إبراهيم: 40) ، بضم الباء في الفعل { يُذْهبُ } .
فثبت بذلك : أن { ذهب بالشيءِ } أبلغ من { أذهب الشيءَ } في التعبير عن المراد ، وأصلهما جميعًا من الذَّهَاب الذي هو المُضِيُّ ، وكلاهما من الأفعال التي يسمُّونها متعدِّية إلى المفعول : الأول بنفسه ، والثاني بوساطة الباء
ب- وأما اختيار النور على النار وضوئها فلأنه المراد من استيقاد النار ؛ إذ هو أعظم منافعها ، ولكونه الأنسب بحال المنافقين الذين حُرِمَوا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله تعالى ، ممَّا سمَّاه نورًا في قوله :﴿ َقدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ ﴾(المائدة: 15) ؛ فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور ، وحرمهم الانتفاع به ، ولم يسمِّه ضوءًا ، أو نارًا ؛ لتتأتَّى هذه الإشارة .
والنارُ جَوهرٌ لطيفٌ نيِّرٌ ، واشتقاقُها من : نار ينور ، إذا نَفَرَ ينفِرُ ؛ لأن فيها حركة واضطرابًا ، وتنكيرها للتفخيم . ومن أخصِّ أوصافها : الإحراق والإضاءة . والإضاءةُ هي فَرْطُ الإنارة . يقال : ضاءت النار ، وأضاءت بنفسها وأضاءها غيرها . وما انتشر منها يسمَّى : ضوءًا . والفرق بينه ، وبين النور : أن الضوء ما يكون للشيء لذاته كما للشمس . والنور ما يكون من غيره كما للقمر ، ومصداقُ ذلك قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾(يونس: 5) , هذا ، وقد اشتهر في العرف أن الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته ، فيجعلها مستضيئة ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، فأضاف النور إلى المنافقين الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار مع المجتمعين . فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا ؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا . وهذا باطل ؛ لأنهم مستضيئون ، لا مضيئون . وما انعكس عليهم من ضوء هذه النار ، نتيجة استضاءتهم به ، هو نورهم الذي أمسكه الله تعالى عنهم ، وحرمهم من الانتفاع به . فلو قيل : ذهب الله بنارهم ، لَفُهِم منه أن النار هي نارهم ، وأنهم هم الذين أوقدوها ، وهذا خلاف المراد .
أما قوله تعالى :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ فهو عطف على قوله :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ، ويُستفاد منه التأكيد والتقرير لانتفاء النور عنهم بالكليَّة ، تِبْعًا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور ، ثم إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبَحان . والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة التي صار إليها المنافقون .
وفي قوله تعالى :﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾ إشارة إلى تحقيرهم وعدم المبالاة بهم ، لما فيه من معنى الطرح للمتروك . و﴿ ظُلُمَاتٍ ﴾ جمع: ظلمة . والظلمة عرَضٌ ينافي النور . وقيل : الظلمة- في أصل اللغة- عبارة عن النُّقْصَان . ومنه قوله تعالى :﴿ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ﴾(الكهف: 33) . أي : لم تنقص منه شيئًا . وفي المثل :« من أشبه أباه، فما ظلم » . أي : فما نقص حقَّ الشَّبَه . وقيل : اشتقاقها من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا . أي : ما منعك وشغلك ؛ لأنها تسدُّ البصر ، وتمنع الرؤية . أما جمعها وتنكيرها فلقصد بيان شدِّتها ؛ كما في قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾(الأنعام: 63) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :« الظلم ظلمات يوم القيامة » ؛ فإن الكثرة ، لما كانت في العرف سبب القوة ، أطلقوها على مطلق القوة ، وإن لم يكن ثمَّة تعدُّد ، ولا كثرة .
ومن اللطائف البديعة أن { الظلمة } ، حيثما وقعت في القرآن ، وقعت مجموعة ، وأن{ النور } ، حيثما وقعَ ، وقع مفردًا . ولعل السبب هو أن الظلمة ، وإن قلَّت تستكثر ، وأن النور ، وإن كثُر يُستقلُّ ما لم يضرَّ . وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان ، والقليل من الكفر كثير ، والكثير من الإيمان قليل ، فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ، ولا الاكتفاء بكثير من هذا . وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة لا متعددة ؛ ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة ، ويؤيِّد ذلك قراءة اليماني :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَة لَا يُبْصِرُونَ ﴾ ، على التوحيد .
ومفعول ﴿ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ محذوف لقصد عموم نفي المبصرات ، وهو كما قال الزمخشري :« من قبيل المتروك المُطرَح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي ؛ كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً » . وفي إطلاق الفعل ، هكذا :﴿ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ ، دون تقييده بمفعول محدَّد ، دلالةٌ على أنهم في عمًى تام ، لا يبصرون شيئًا . وفي نفيه بـ﴿ لَا ﴾ دلالةٌ على طول النفي وامتداده ، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا .
وأما قوله تعالى :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ فقيل : مرفوع على الاستئناف ، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين . أي : هم صم بكم عمي ، وتؤول جميعًا إلى عدم قبولهم الحق . وفي قراءة ابن مسعود ، وحفصة أم المؤمنين ، رضي الله عنهما :﴿ صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾ ، بالنصب ، ونصبُه من وجهين :
أحدهما : على معنى : تركهم صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا ، فتكون الآية تتمةً للتمثيل ، وتكميلاً له .
والثاني : على معنى الذمِّ ، فيكون كلامًا مستأنفًا . والعرب تنصب بالذمِّ وبالمدح ؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم : وَيْلاً له وبُعْدًا ، ووَيْحًا وثَوَابًا , وسَقْيًا ورَعْيًا .
وقد جاء ترتيب هذه الصفات في الآية الكريمة وفقًا لترتيب مراكزها في مُخِّ الإنسان ؛ وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن . فقد وجد العلماء في العصر الحديث بعد أن تمكنوا من رسم أول خريطة للمخ البشري ، أن مركز السمع يوجد في مقدمة المخ ، وأن مركز البصر يوجد في مؤخرة المخ ، ويتوسَّط بين المركزين مركز يسمَّى : مركز البيان ، وتعطيل هذه المراكز الثلاثة يؤدي إلى أن يصبح الإنسان أصمَّ لا يسمع ، وأبكمَ لا ينطق ، وأعمى لا يبصر . وقبل ذلك كانت مراكز المخ مجهولة بالنسبة للإنسان لدرجة أن العلماء كانوا يعتقدون أن مركز البصر موجود في العين ، ومركز السمع موجود في الأذن ، ومركز النطق موجود في الفم ؛ ولكن العلم الحديث فصل بين كل عضو من هذه الأعضاء ، ومركزه . وعندما يلتقي مركز السمع مع مركز البصر ، فإن المنطقة البينية تشكل مكان إنتاج البيان البشري . وها هي الآية الكريمة :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ تشير في إعجاز باهر إلى منطقة البيان التي تتوسَّط بين مركز السمع ، والبصر في مخ الإنسان .
و{ الصُّمُّ }- في اللغة- هم المسلوبو الأسماع ، واشتقاقه من الصَّمَم ، وهو في كلام العرب : الانسداد . يقال : قناة صمَّاء ، إذا لم تكن مجوّفة . وصَمَّ القارورة ، إذا سدَّها . وعليه فالأصم هو منْ انسدَّت خروق مسامعه . وفي حديث الحجاج قال لأنسٍ رضي اللّه عنه :« أَصَمَّ اللّه صَدَاك » . أي : أَهلكك . والصَّدَى أصله في اللغة : الصوتُ الذي يسمعه المُصوِّت عَقيبَ صياحه راجعًا إليه من الجبل والبناء المرتفع ، ثم استُعِير للهلاك ؛ لأنه إنما يجِيب الحيَّ . فإذا هلك الرجل ، صمَّ صداه ؛ كأنه لا يسمع شيئًا ، فيجيب عنه . وقيل الصَّدَى : الدِّماغُ . وقيل : هو الموضعُ الذي جُعِلَ فيه السمع من الدِّماغ . ومن معاني الصَّدَى : العطشُ الشديد ، ولا يكون ذلك حتى يجفَّ الدماغُ ويَيَبْس ؛ ولذلك تنشقُّ جِلْدةُ جَبْهةِ من يموتُ عَطَشًا . وربَّما سمُّوا الدماغَ مُخًّا.
أما { العُمْيُ } فهم المسلوبو الأبصار ، واشتقاقه من العَمَى ، وهو ذهابُ البصر . يقال : عمِيَ فلانٌ فهو أعمى . وهو الذي لا يبصر شيئًا .
وأما { البُكْمُ } فهم المسلوبو النطق ، واشتقاقه من البَكَم ، وهو الخَرَسُ مع عِيٍّ وبَلَهٍ . يقال : بَكِمَ فهو أَبْكَمُ ، وهو الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو أخرس . وفي الفرق بينهما قال الأَزهري :« بين الأَخْرسِ ، والأبْكَمِ فَرقٌ في كلام العرَب ؛ فالأَخْرسُ خُلِقَ ولا نُطْقَ له ؛ كالبَهيمة العَجْماء . والأَبْكَمُ الذي للسانه نُطْقٌ ، وهو لا يعْقِل الجوابَ ، ولا يُحْسِن وَجْه الكلام » . وجاء في لسان العرب :« البَكَمُ : الخَرَسُ مع عِيٍّ وبَلَهٍ . وقوله تعالى :﴿ صُُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ قال أبو إِسحق : قيل : معناه : أنهم بمنزلة من ولد أَخْرَسَ . قال : وقيل : البُكْمُ- هنا- المَسْلُوبُو الأَفئدة » .
ولما كان الموصوفون بهذه الصفات هم الكفار الذين يتمتعون بسمع جيد وبص