أمثال القرآن: مثل نور الله جل جلاله بتاريخ: 2010/4/3
مثل نور الله جل جلاله
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾{ النور: 35 }
أولاً- هذه الآية الكريمة تتحدث عن سلطان الله جل جلاله في هذا الوجود وامتلاكه لناصية كل موجود فيه ؛ ففيها أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه نور السموات والأرض . ثم ضرب لنوره مثلاً ، شبهه فيه بنور مصباح قد اجتمعت له أسباب الإضاءة كلها على أحسن وجه وأتمِّه وأكمله ، فبدا نوره صافيًا قويًّا متلألأً ، ينير كل ما حوله ، ويهتدي به كل من حوله. ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه يهدي لنوره من يشاء من عباده ، وأن مشيئته سبحانه تابعة لحكمته وعلمه بالأشياء كلها دقيقها وعظيمها ، صغيرها وكبيرها ، لا يغيب من ذلك شيء عن علمه سبحانه .
وقد سبق ذلك كله قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾{ النور: 34 } ، وهو تعقيب لما سبقه في هذه السورة الكريمة التي سمَّاها الله تعالى : سورة النور ، ووصفها بقوله :﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾{ النور: 1 } ، فدل ذلك على أنها جملة من الحدود والأحكام ، والحكم والآداب ، والأخلاق والمواعظ ، قد فرضت فرضًا على سبيل القطع والإلزام ؛ لما في ذلك من تطهيرٍ للمجتمع من الفساد والفوضى واختلاط الأنساب والانحلال الخلقي ، ومن حفظٍ للأمة من عوامل التردِّي في بؤرة الإِباحية والفساد التي تُسبِّب ضياع الأنساب وذهاب الشرف والأعراض ، وبناء مجتمع فاضل يقوم على العدل والحق والخير .
والإخبار عن هذه السورة بلفظ النكرة هكذا :﴿ سُورَةٌ ﴾ ، ثم وصفها بما تلاه من صفات ، فيه من الفخامة من حيث الذات ومن حيث الصفات ما لا يخفى ؛ فكان من المناسب جدًّا أن يأتي الله سبحانه بعد ذلك بهذا التعقيب ، الذي ضمَّنه هذا الوصف الجليل للقرآن الكريم الذي تضمن هذا التقسيم الثلاثي لما جاء فيه ، فبيَّن سبحانه وتعالى:
1- أنه آيات مُبيِّنات ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ﴾ . أي : مُوضِّحات لأحكام الدين وحدوده ، لا تدع مجالاً للشك أو الغموض والتأويل والانحراف عن منهج الله القويم . ويدخل في عموم هذه الآيات المبيِّنات الآياتُ البيِّناتُ التي أخبر الله تعالى عن إنزالها في هذه السورة بقوله :﴿ وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾{ النور : 1 } . فهذه بيِّنات في أنفسها ، وتلك مع كونها بيِّنات في أنفسها مُبيِّنات لغيرها .
2- أنه مَثَلٌ من الذين خَلَوْا من قبلنا ﴿ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ ، وهو المراد بما ذكره تعالى في كتابه من أحوال الأمم الغابرة وقصصهم التي يُعتبَر بها ، ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة ؛ كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾{ يوسف: 111 } . ومن هذه القصص- التي فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر- ما أخبر الله تعالى عنه في هذه السورة المباركة من قصة مريم- رضي الله عنها- التي رماها قومها بالفاحشة فبرَّأها الله تعالى . فهذه القصة قد جعلها الله تعالى مَثَلاً لكل قصة تماثلها ؛ كقصة عائشة- رضي الله عنها- التي رماها أهل الإفك من قومها بما لا يليق بها فأظهر الله تعالى براءتها .
3- أنه ﴿ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم . وكذلك هو موعظة للكفرة الضالين . وإنما خَصَّ تعالى المتقين بالذكر ؛ ليبين أنهم هم الذين اتعظوا وانتفعوا بتلك المواعظ . ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾{ يس: 11 } . وقد كان عليه الصلاة والسلام مُنذِرًا لكل الناس ، ولكن خَصَّ الله تعالى الذين اتبعوا الذكر وخشوا الرحمن بالغيب ؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بالإنذار .
ثم تلا ذلك قول الله جل وعلا :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ، فبيَّن سبحانه أن كل ما أنزله من آيات بيِّنات ومُبيِّنات ، وما فرضه من أحكام ، وما حَدَّه من حدود ، وما ذكره من أحوال الأولين والآخرين وقصصهم ، وما ذكره من أوامرَ ونواهٍ ومواعظَ في هذه السورة المباركة خاصة وفي القرآن الكريم عامة ؛ إنما هو نور مستمد من نوره سبحانه ، وأثر من آثاره.. وهكذا تتناسق الآيات مع بعضها البعض في سلك رفيع من النظم بديع !
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ يقتضي ظاهره أنه تعالى في ذاته نور . ولما كان لفظ النور موضوع في اللغة للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما ، حمل جمهور المفسرين إسناده إلى الله عز وجل على المجاز . وإسناده عندهم على اعتبارين : أحدهما : أنه بمعنى : منوِّر السموات والأرض ، أو هادي أهلهما ، أو مدبِّر الأمور فيهما . والآخر : أنه على حذف مضاف ، تقديره : الله ذو نور السموات والأرض .
وكونه تعالى منوِّر السموات والأرض وهادي أهلهما ومدبِّر الأمور فيهما هو إنما فعله سبحانه ؛ وإلا فالنور الذي هو وَصْفٌ من أوصافه جل وعلا قائمٌ به ، ومنه اشْتُقَّ له اسم النور الذي هو أحد أسمائه الحسنى . وفي حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ذكر أسماء الله تعالى وفيه النور . ومحالٌ أن يسمِّيَ الله تعالى نفسه نورًا وليس له نور ، ولا صفة النور ثابتة له ، كما أن من المستحيل أن يكون عليمًا وقديرًا وسميعًا وبصيرًا ، ولا علم له ولا قدرة ، ولا سمع له ولا بصر ، بل صحَّةُ هذه الأسماء عليه مستلزمةٌ لثبوت معانيها له ، وانتفاءُ حقائقها عنه مستلزمةٌ لنفيها عنه . والثاني باطل قطعًا ، فتعيَّن الأول .
وأهل السنة والجماعة يثبتون النور اسمًا لله تعالى ، وصفة له حقيقة ؛ كما يثبتون له سبحانه سائر أسمائه وصفاته ، وأنه لا يماثل نور المخلوقين ، ولا يعلم العباد كنهه . فليس نور الله عز وجل هو ذلك النور الفائض عن جرم الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما ؛ وإنما هو نور يليق بذات الله جل وعلا ، ولكل ذات ما يناسبها من الأنوار ؛ فإخراجه عن حقيقته وحمل لفظه على المجاز ؛ إنما يستند إلى فهم باطل لا يدل عليه اللفظ بوجه من الوجوه . والنصُّ في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه قد دل على أن النور المضاف إلى الله عز وجل نوران :
النور الأول : نور هو صفته سبحانه ، وينقسم إلى صفة ذات ، وصفة فعل ؛ فإنه سبحانه ذو النور الذي لم يزل ولا يزال متصفًا به ، وإنه سبحانه ذو نور يوصله إلى ما يشاء من خلقه ، ويهدي به من يشاء من عباده ؛ كما قال تعالى :﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ . فالأول هو الصفة الذاتية ، والثاني هو الصفة الفعلية ، وكلاهما قائم بذات الله جل وعلا .. والفرق بينهما :
1- أن النور الذي هو صفة ذاتية لا تعلُّق له بالمشيئة ، فلا ينفك عنه سبحانه ؛ لأنه لازم لذاته المقدسة أزلًا وأبدًا ؛ كحياته وسمعه وبصره . وهذا النور يقال عليه سبحانه بالإطلاق ؛ ومثاله قولنا :{ الله نور } . وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ، لما سأله أبو ذر في الحديث الذي رواه مسلم : هل رأيت ربك ؟ فقال : « نورٌ ! أنَّى أراه » ؟ فأخبر صلى الله عليه وسلم عن ربه بأنه « نورٌ » ، ثم نفى رؤيته لربه جل وعلا ، على سبيل الإنكار بقوله :« أنَّى أراه » ؟ وهذا أبلغ من قولنا :{ لم أره } ؛ لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط ، وهذا يتضمن النفي وطرفًا من الإنكار على السائل ؛ كما إذا قيل لرجل : هل كان كذا وكذا ؟ فيقال له : كيف يكون ذلك ؟ والمعنى : كان ثمَّ نورٌ ، وحال دون رؤيته نورٌ ، فأنَّى أراه ؟
ودلالة هذا الحديث- كما هو ظاهر- قاطعة في إطلاق صفة النور على الله جل وعلا لمن تأملها ، وسلم من مرض التعطيل والتحريف ، والتكييف والتمثيل ، وهي كغيرها من الصفات الذاتية التي تُثْبَتُ لله تعالى مع التنزيه اللائق بجلاله ؛ وذلك على حدِّ قوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾{ الشورى: 11 } ، وقوله تعالى :﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾{ النحل : 60 } .
2- وأما النور الذي هو صفة فعلية فهو الذي يتعلق بمشيئة الرب جل وعلا ، إن شاء فعله ، وإن شاء لم يفعله ؛ كقيُّوميَّته وإحيائه وإماتته . وهذا النور يضاف إليه سبحانه إضافة الصفة إلى موصوفها ، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته . وتارة يضاف إلى ذات الله جل وعلا ، وتارة يضاف إلى وجهه الكريم .
فمن الأول قوله تعالى :﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾{ الزمر : 69 } . فهذا إشراق الأرض يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء بين عباده ، وليس إشراقها يومئذ بشمس ، ولا قمر ؛ فإن الشمس تُكَوَّرُ ، والقمر يًُخْسَفُ ، ويذهب نورهما .
ومن الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور :« أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني ، لا إله إلا أنت » . وفي الأثر الآخر :« أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل عليَّ غضبك ، أو ينزل بي سخطك » .
فأضاف عليه الصلاة والسلام النور إلى الوجه الكريم ، والوجه إلى الذات المقدسة ، واستعاذ بنور الوجه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ إلا بذات الله جل وعلا الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا بها ، أو بصفة من صفاتها المضافة إليها إضافة الصفة إلى موصوفها ، ولا يستعيذ بمخلوق أبدًا ، فعلم أن نور الوجه صفة فعلية له ، وأن الوجه الكريم صفة ذاتية لله سبحانه .. ثم أخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الرب تبارك وتعالى ؛ كما أخبر الله تعالى أن الأرض أشرقت بنور ربها جل وعلا . فإذا كانت الأرض تشرق بنور ربها يوم القيامة ، والظلمات تشرق لنور وجهه الكريم في الدنيا ، فكيف لا يكون سبحانه وتعالى في نفسه نورًا ؟
ومن إضافة النور إلى وجه الرب تبارك وتعالى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :« سُبُحاتُ وجهه » في الحديث الذي رواه مسلم والبخاري وغيرهما ، عن أبى موسى الأشعري أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال :« إن الله عز وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يُرفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » .
فإذا كانت سُبُحَاتُ وجه الرب تبارك وتعالى لا يقوم لها شيء ، ولو كشف حجاب النور عن تلك السُّبُحات ، لأحرقت كل ما انتهى إليه بصره من خلقه ، فما الظن بجلال وعظمة ذلك الوجه الذي هو صفة من صفات ذات الله جل وعلا ؟ تأمل قول الله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجََلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾{ الأعراف : 143 } ، تجد كيف ساخ الجبل في الأرض وتفتَّت ، لمَّا تجلَّى له الرب جل وعلا بنوره ، ولم يقم لله تبارك وتعالى . وهذا هو معنى قول ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾{ الأنعام : 103 } ، قال :« ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره ، لا يدركه شيء » . وفي رواية أخرى :« لا يقوم له شيء » . وهذا من بديع فهمه ودقيق فطنته .
النور الثاني: نور هو مخلوق لله عز وجل ، وإضافته إليه سبحانه هي من إضافة المخلوق إلى خالقه ، وهو نوعان : نور هو حجابه تبارك وتعالى . ونور هو نور الوجود كله المعبَّر عنه بنور السموات والأرض .
1- فأما النور الذي هو نور حجابه سبحانه فهو النور الذي يمنع من رؤيته ، وهو النور الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته له بقوله :« رأيت نورًا » . فهذا النور هو النور الذي احتجب به جل وعلا عن خلقه ، ويدل عليه ما جاء في حديث الإسراء من أنه عليه الصلاة والسلام ، لما قرُب من سدرة المنتهى ، غَشِيَ السدرة من النور ما حجب بصره عن النظر إليها ، أو إليه سبحانه . وجاء في حديث الحجاب قوله صلى الله عليه وسلم :« حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » . فقوله :« حجابه النور » هو النور المذكور في الحديث السابق :« رأيت نورًا » .
وهذا النور الذي يمنع من رؤية الله سبحانه يسمَّى نورًا ونارًا ؛ كما وقع التردُّد في لفظه في بعض الروايات الصحيحة :« حجابه النور أو النار » ؛ فان مثل هذه النار الصافية التي كلم الله عز وجل بها موسى- عليه السلام- يقال لها : نارٌ ونورٌ ؛ كما سمَّى الله عز وجل نارَ المصباح نورًا ، بخلاف النار المظلمة كنار جهنم ، فتلك لا تسمَّى نورًا ، وكلاهما حاجب للرؤية ومانع منها ، وما يكون حاجبًا لعباده عن رؤيته ، لا يحجبه سبحانه وتعالى عن رؤيته لخلقه .
2- وأما النور الذي هو نور الوجود كله فهو ما يكون صفة لأعيان قائمة ، وهو ضد الظلمة ، وكلاهما مجعول لله تعالى ؛ كما أفاد ذلك قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾{ الأنعام : 1 } ؛ وهو نوعان : دنيوي ، وأخروي .
فأما الأخروي فهو نور معقول ؛ ومثاله قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾{ الحديد : 12 } . وأما الدنيوي فهو معقول ، ومحسوس؛ ومثال المعقول قوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾{ الصف : 8 } . ومثال المحسوس قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ﴾{ يونس : 5 } .
وهذا النور المخلوق في الدنيا والآخرة هو أثر النور الذي هو صفة فعلية لله سبحانه وتعالى ، وهو منفصل ليس قائمًا بذات الرب جل وعلا ، وهو المراد من النور المضاف إلى السموات والأرض .
فثبت ممَّا تقدم أن الأنوار أربعة : نوران غير مخلوقين : نور هو صفة ذاتية لله جل وعلا ، ونور هو صفة فعلية له سبحانه . ونوران مخلوقان : نور هو نور حجاب الرب جل وعلا ، ونور هو نور الوجود كله ، وليس من نور في هذا الوجود إلا وهو نور من نور الله تعالى .
وهذه الأنوار المخلوقة ، وغير المخلوقة قد تضمنها قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ . فهذا يدل على أن النور اسم سمَّى الله تعالى به نفسه ، واسمه تعالى يدل على ذاته ، وصفته . فذاته جل وعلا نور ، وصفته القائمة بذاته نور ، وهي نوره الفعلي ، المضاف إلى ذاته إضافة الصفة إلى الموصوف ، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته . وأما النور المضاف إلى السموات والأرض فهو أثر نوره الفعلي ومقتضاه ، وهو نور مخلوق منفصل ، غير قائم بذات الرب جل وعلا ، وإضافته إليه سبحانه هي من إضافة المخلوق إلى الخالق . وهذا كما أن ربوبيته وقيُّوميَّته ورحمته تعالى صفات فعلية قائمة بذاته سبحانه . والربوبية والقيومية والرحمة الموجودة في العالم آثار تلك الصفات القائمة به ومقتضاها ، وهي أمور منفصلة عنه غير قائمة بذاته سبحانه . ويدلك على ذلك أن الفعل القائم بالفاعل غير المفعول ، بل هو أثر فعله ومقتضاه .
وفي صحيح البخاري ومسلم ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا تهجد في الليل يدعو :« اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهن » .
وهذا الحديث قد تضمَّن ثلاثة أمور شاملة عامة للسموات والأرض ؛ وهي : نورهما ، وربوبيتهما ، وقيوميتهما . فكونه سبحانه نورًا لهما ، وربًا لهما ، وقيومًا لهما أوصاف فعلية له قائمة به سبحانه ، وآثار نوره وربوبيته وقيوميته قائمة بهما ، وهي صفات مقتضاها هو المخلوق المنفصل .
فإذا ثبت أن النور هو فعل من أفعال الرب جل وعلا ، قائم به سبحانه- كالربوبية والقيومية والرحمة - كان نور السموات والأرض القائم بهما هو أثر ذلك النور الفعلي القائم به سبحانه ومقتضاه . وهذا هو معنى قراءة علي- رضي الله عنه- وأبي جعفر :﴿ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ ، فعلاً ماضيًا ومفعولاً به ، وهو معنى قول ابن مسعود- رضي الله عنه- في تفسير الآية :« نور السموات والأرض من نور وجهه » ؛ وذلك في الأثر الذي رواه عنه ابن جرير وغيره :« إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه » .
وهذا الذي قاله ابن مسعود- رضي الله عنه- في تفسير الآية هو أقرب من قول من فسرها بـ{ هادي أهل السموات والأرض } . وأما من فسرها بـ{ منوِّر السموات والأرض } فلا تنافي بينه ، وبين قول ابن مسعود .. وقد كان من عادة الصحابة- رضوان الله عليهم- أن يذكروا في تفسيرهم بعض صفات المفسَّر من الأسماء ، أو بعض أنواعه ، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى ، أو بعض أنواعه ، بل قد يكونان متلازمين .
والحق أن الله تعالى هو نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها ؛ لأن من معاني كونه تعالى نور السموات والأرض أن يكون منوِّرًا لهما ، وهاديًا لأهلهما ، ومدبر الأمور فيهما بنوره الذي منه قِوامُهُمَا ، ومنه نِظامُهُمَا ؛ فهو الذي يهَبُهُما جوهرَ وجودهما ، ويودِعُهُما ناموسَهُما ، ويقيم كل موجود في هذا الوجود في مكانه الصحيح ، ويوجِّهه الوِجْهةَ التي يأتلف فيها مع الوجود ويتناغم مع الموجودات ؛ فكأن كل ذرة من ذرات هذا الوجود تعمل في نور ، فلا تضلُّ طريقَها أبدًا .
ونحن- كما قال عبد الكريم الخطيب في كتابه تفسير القرآن للقرآن- إذا نظرنا اليوم بعين العلم ، رأينا الوجود كله نورًا ؛ فالأجسام جميعُها مكونة من ذرَّاتٍ . والذرَّاتُ هي- كما عرف العلم- نورٌ من نورٍ ، فكل ذرة مجموعة من الشموس تدور في فلك النواة التي للذرة . فهذه الأجسام المعتمة ، وغير المعتمة في هذا الكون الفسيح هي نورٌ مُجَسَّد مُتكاثِفٌ ، إذا انْحَلَّ إلى ذرَّاتٍ ، كان كُتلاً من النور الوهَّاج . فالعالم الماديُّ- كما يبدو في مرآة العلم الحديث- هو شُموسٌ تستمد نورها من نور الله الذي أضاء الوجود كله. ومع ذلك فهو بالإضافة إلى نور الله جل جلاله ظلام ، لا تتجلَّى حقيقته إلا على ضوء نور الله سبحانه ؛ كما تتجلَّى حقائق الأشياء التي تقع في محيط المشكاة ، وما يشعُّ المصباح الذي فيها من أضواء .
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيوميَّة الله سبحانه وتعالى وسلطانه القائم في الوجود بالنور ؛ إنما هو لما في النور من لطف بحيث لا يتجسَّد أبدًا ، بل إنه في هذا على عكس الأشياء كلها . فالأشياء اللطيفة- كالزجاج الرقيق مثلاً- كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته ، ثم لا تزال شفافيته تقل ، كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسمًا معتمًا . أما النور فإنه كلما تضاعفت أشعته ، ازداد شفافيةً وقدرةً على كشف المرئيات التي يقع عليها من دون أن يشكل حيِّزًا في المكان الذي ينيره ، أو يحدث خلخلة في الهواء .
ومن جهة أخرى فإن النور- مع شفافيته ومع زيادة هذه الشفافية كلما كثر وقوي- هو من أكثر ظواهر الطبيعة سرعة بحيث لا يكاد يقيَّد بزمن ، فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمَحة بصر ، لا تتجاوز جزءًا من الثانية . فالنور- كما ترى- لا يتحيَّز في مكان ، ولا يكاد يتقيد بزمن ، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ، ولا يحده زمان .
فإذا كان اللَّه جل وعلا نور السموات والأرض ، كان معنى هذا : أنه- سبحانه وهو القيوم على الوجود- ليس حالاً في الموجودات ، ولا متحيِّزًا فيها ، ولا محجوزًا في مكان منها دون مكان ، خلافًا للقائلين بحلول ذات الرب جل وعلا وصفاته ببعض مخلوقاته ، أو في كل مكان ، تعالى الله عن قولهم وعلا علوًّا كبيرًا .
وبيان ذلك : أن الله تعالى قال :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ ، فسمَّى الشمس ضياءً ؛ لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينًا وإحراقًا ، وسمَّى القمر منيرًا ؛ لأنه ليس فيه مع الإنارة تسخينًا وإحراقًا ، والمقصود أن لفظ الضياء والنور يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه ، ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض والأجسام المعتمة . وهذا الثاني عَرَضٌ قائمٌ بغيره ، ليس هو الأول ، ولا صفة قائمة بالأول ، ولكنه حادث بسببه . فالشعاع الذي هو الضياء والنور الحاصل على الماء والأرض والهواء وغير ذلك هو عَرَضٌ قائمٌ بغيره ، وليس هو مُتَّحِدًا به ألبتة .
وكذلك قال الله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ، فسمَّى نفسه نور السموات والأرض . والمقصود أن لفظ النور – هنا- يراد به النور الذي هو صفة فعلية قائمة بذات الله جل وعلا. ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في السموات والأرض . وهذا الثاني هو عرض قائم بهما ، وليس هو نور الله القائم به سبحانه ؛ لأن ما يقوم بالربِّ جل وعلا لا يُتَصَوَّرُ أن يقوم هو نفسُه بغيره ، بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض ، يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره ، فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها ، من شكلها واستدارتها وما قام بها من نور أو غيره ، أن يقوم بغيرها .. وكذلك ما قام بجرم النار من ضوء لا يقوم هو بغيرها ، بل إذا جاورت النار مكانًا ، حصل في ذلك المكان ضوء آخر غير ضوء النار القائم بنفس النار؛ فلا يقال: إن ضوء النار حل بذلك المكان ، وإن كان حادثًا عنه ؛ وإنما يقال : إنه منه ، وأثره ومقتضاه . وقد ثبت أن الناس يقولون: أنت في قلبي ، أو ساكن في قلبي ، أو حالٌّ في قلبي .. ونحو ذلك ، وهم لا يريدون أن ذاته حلَّت فيه ، ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره ، حلَّ في قلبه .
ثالثًا- وبعد أن جلا الله تعالى هذا الأفق المترامي لنوره الفعلي الذي يستضيء به الوجود كله ، شرع سبحانه وتعالى في ضرب مثل لهذا النور العظيم ، يقربه إلى العقول ، ويدنيه من المدارك والتصورات ، ويخرجه من عالم ما وراء الحِسِّ إلى عالم المحسوس ؛ وإلا فإن نور الله تعالى في ذاته لا يمكن لبشر أن يتصوره حقيقة ، أو خيالاً ؛ لأنه- كما قدمنا- صفة من صفاته سبحانه قائمة به . وكما لا تدرك ذات الله جل وعلا ، فكذلك لا تدرك صفاته . وأقرب مثل لهذا النور الذي لا يعرف كنهه أحد ولا يدرك سره أحد في تصورنا ، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة دُرِّيَّة ، داخل مشكاة ، هي أشبه بالوجود الذي يستضيء بنور الله ؛ وذلك قوله تعالى:
﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
وهو مثلٌ يقرِّب للإدراك المحدود طبيعة هذا النور العظيم ، ويرسم له النموذج المصغَّر الذي يتأمله الحِسُّ حين يقصُر عن تملِّي الأصل . ولأهل المعاني في هذا المثل طريقتان : إحداهما طريقة التشبيه المركب . والثانية طريقة التشبيه المفصل . والأولى أقرب مأخذًا ، وأسلم من التكلف ، وهي أن تشبه جملة بجملة من غير تعرُّض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به ، وعلى هذا عامة أمثال القرآن . والتقدير: مثل هذا كهذا . والأول مشبَّه وهو فرع ، والثاني مشبَّه به وهو أصل قيس عليه الفرع ، وما بينهما وجه شَبَه دلَّت عليه كاف التشبيه .
أما المشبَّه الذي هو الفرع فهو :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ . وأما المشبَّه به الذي هو الأصل فهو :﴿ مِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾ . فهذا المجموع المركَّب هو مثل نور الله تعالى . ولفظ المثل يطلق على المشبَّه الفرع ، ويطلق على المشبَّه به الأصل ، ويطلق عليهما معًا .
وقد دل وجود لفظ المثل في طرف المشبَّه ، دون وجوده في طرف المشبَّه به ، على أن المشبَّه ليس هو نور الله جل وعلا ذاته ؛ وإنما هو مثله المطابق له في تمام أوصافه ، وأن المشبَّه به هو نور المصباح ذاته بما اجتمع له من أسباب الإضاءة . والأول موجود معلوم في الذهن ، والثاني موجود معلوم خارج الذهن ؛ ولهذا لا حاجة بنا إلى تقدير لفظ ﴿ مَثَل ﴾ عقب كاف التشبيه ؛ فلا يقال : التقدير :{ كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ } .. وكذلك لا حاجة بنا إلى تقدير مضاف محذوف عقب هذه الكاف ؛ فلا يقال :{ كَنُوْرِ مِشْكَاةٍ } ؛ لأن المشبَّه به- على ما تقدم- ليس هو نور المشكاة وحدها ، بل هو ما اجتمع فيها من نور المصباح ، ونور الزجاجة ، ونور الزيت ؛ ولهذا وصفه الله تعالى بقوله :﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾ . والنور الأول هو نور المصباح والزجاجة والزيت ، والثاني هو نور المشكاة ، إنه نور مضاف إلى نور .
والقاعدة في المدح أن يشبه الأدنى بالأعلى ، وفي الذم أن يشبه الأعلى بالأدنى ؛ لأن الذم مقام الأدنى ، والأعلى طارئ عليه ، فيقال في المدح : الحصى كالياقوت . ويقال في الذم : الياقوت كالزجاج .. وكذا يقال في السَّلْب ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء ﴾{ الأحزاب : 32 } . أي : ليسن كأحد من النساء في النزول ، لا في العلو . وقوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾{ ص : 28 } . أي : في سوء الحال . أي : لا نجعلهم كذلك .
وقد اعترض على ذلك بقوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ ؛ فإنه شُبِّهَ فيه الأعلى بالأدنى ، لا في مقام السَّلْب . وأجيب عنه بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين ؛ إذ لا أعلى من نوره سبحانه ، فيشبه به . وقيل : يمكن أن يكون المشبه به- هنا- أقوى من المشبه ؛ وذلك لكونه في الذهن أوضح ؛ إذ الإحاطة به أتمُّ !
وأما قول من قال : إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الأدنى بالأعلى ، فهو قولٌ غير سديد ؛ لأن التشبيه يأتي تارة في معرض المدح ، وتارة في معرض الذم ، وتارة في غير معرض مدح ، ولا ذم ؛ وإنما يأتي قصدًا للإبانة والإيضاح ، ولا يكون تشبيه أدنى بأعلى- كما ذهب إليه من ذهب- بل القول الجامع في ذلك أن يقال: إن التشبيه لا يُعمَد إليه إلا لضرْب من المبالغة : فإما أن يكون مدحًا ، أو ذمًا ، أو بيانًا وإيضاحًا ، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة . وعلى المعنى الثالث من هذه المعاني يُحمَل التشبيه في هذه الآية الكريمة .
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ يقتضي أن يعود ضمير الكناية على الله سبحانه ، وليس في الكلام ما يدل على أنه يعود على المؤمن ، أو على القرآن الكريم ، أو على محمد صلى الله عليه وسلم . وأن هذا النور المضاف إلى الله جل وعلا هو نوره الذي هو صفة فعلية قائمة به سبحانه ، والمضاف إليه سبحانه إضافة الصفة إلى الموصوف ، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته . فالذات نور ، والمضاف إليها نور ، والأول غير الثاني . والفرق بينهما : أن الأول لا تعلُّق له بالمشيئة ، وهو لازم لذات الله جل وعلا ، لا ينفك عنها أزلاً وأبدًا . وأما الثاني فيتعلَّق بمشيئته سبحانه .
وفي ذلك ردٌّ على من قال : لو كان الله سبحانه في ذاته نورًا ، لما جازت إضافته إليه سبحانه ؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، فلا يقال مثلاً : حقُّ الحقِّ ، بل يقال: حقُّ اليقينِ . وأصل الكلام: الحقُّ اليقينُ . فاليقين صفة لازمة للحق ، أضيفت إليه ؛ كما أضيف النور إلى الله عز وجل في قولنا : الله النور ، وإضافتهما هي إضافة صفة إلى موصوفها . والعرب إنما تفعل ذلك في الصفة المعرفة اللازمة لموصوفها لزوم اللقب للأعلام ؛ كقولهم :{ زيدُ بطَّةٍ }. وأصله :{ زيدٌ بطَّةٌ } ، ثم أضيف الأول إلى الثاني . أما الصفة التي لا تثبت ، ولا تلزم موصوفها فلا تضاف إلى الموصوف لعدم الفائدة المخصِّصة التي لأجلها كانت هذه الإضافة . وهذا يؤكِّد ما ذكرناه أولاً من أن النور وَصْفٌ من أوصاف الله تعالى قائمٌ به ، ولازم له ، لا ينفك عنه أبدًا ؛ كنور المصباح .. وبهذا يظهر لنا سِرُّ تمثيل نوره جل وعلا بنور المصباح داخل المشكاة دون غيره من الأنوار ، وهو نوره الفعلي الذي دل عليه قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ، ﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِهَا مِصْبَاحٌ ﴾ .
فهذا التمثيل هو تمثيل لهذا النور الذي يستضيء به الوجود كله ، وليس تمثيلاً لنوره الذي ألقاه سبحانه في قلب المؤمن . أو في قلب محمد صلى الله عليه وسلم . أو لنوره الذي هو وحيُه المنزل في كتابه الكريم . والدليل على ذلك ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- من قوله في مناسبة نزول الآية :« إن اليهود قالوا : يا محمد ! كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء ؟ فضرب الله تعالى ذلك مَثَلاً لنوره » .
وأما ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ أنه قال :« هي خطأ من الكاتب , هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة ؛ إنما هي : مثل نور المؤمن كمشكاة » ، فالجواب عنه : أن هذه الرواية معارضة للقاطع المتواتر ، فهي ساقطة ، وأنه لم ينقل عن أحد من القرَّاء أن ابن عباس- رضي الله عنهما- قرأ :﴿ مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ ، فكيف يقرأ بما يعتقد أنه خطأ ، ويترك ما يعتقد أنه صواب ؟ ولو أنهم نسبوها لأُبَيّ بن كعب ، لكان الأمر أهون ؛ لأنه رويَ في الشواذ أن أُبَيًّا- رضي الله عنه- قرأ :﴿ مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ ، بإضافة النور إلى المؤمن .. وكذلك روي عنه أنه قرأ :﴿ مَثَلُ نُورِ اللهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ ، بإضافة النور إلى لفظ الجلالة ، وزيادة { في قلب المؤمن } . والذي ينبغي أن تحمَل عليه هذه الروايات أن أُبَيًّا- رضي الله عنه- أراد تفسير الضمير في القراءة المتواترة ؛ فهي روايات عنه في التفسير ، لا في القراءة ، بدليل أنه كان يقرأ بالقراءة المتواترة هكذا :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ .
وإذا كان جمهور المفسرين- قديمًا وحديثًا- قد تأولوا الآية على معنى: مثل نور الله الذي ألقاه في قلب المؤمن معتمدين على القول الثاني المروي عن أُبَيِّ بن كعب ، فإن أحد الباحثين المعاصرين قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين تأوَّل الآية على معنى : « مثل بعض نوره . أو : نموذج نوره ممَّا يدرك الناس منه . وهذا النموذج هو بعض نور الله العظيم » ، فحشر لفظ { بعض } بين لفظ المثل ، ولفظ النور ، ثم تأوَّل لفظ المثل بمعنى النموذج ، وفسر هذا النموذج بأنه بعض نور الله العظيم . وكل هذا تكلُّف في التأويل لا داعي له ، وعدول عن ظاهر الآية الكريمة ، وفيه من إفساد المعنى والإخلال بالنظم الكريم ما لا يخفى على ذوي البصائر وأهل التمييز .
ثم إنه على تأويلهم هذا النور بأنه نور المؤمن ، أو بعض نوره الذي ألقاه في قلوب عباده المؤمنين يكون نورًا مخلوقًا ، وإضافته إليه سبحانه هي إضافة خلق أو ملك ؛ كما في قوله تعالى :﴿ نَاقَةُ اللّهِ ﴾{ الأعراف : 73 } ، وقوله :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾{ الحج : 26 } .. ونحوهما .
ومما ينبغي أن يعلَم أن النور الذي هو صفة لله تعالى لا يكون صفة لأعيان قائمة ؛ لأن المضاف إذا كان شيئًا قائمًا بنفسه ، أو حالاً فى ذلك القائم بنفسه ، لا يجوز أن يكون صفة لله تعالى ؛ لأن الصفة قائمة بالموصوف . فالأعيان التي خلقها الله تعالى قائمة بأنفسها ، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات لله تعالى ، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة ، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة ، لا لكونها صفة له سبحانه . وأما إذا كان المضاف لا يقوم بنفسه ، بل لا يكون إلا صفة- كالعلم والقدرة والكلام والرضا والغضب- فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إلى الله جل وعلا ، فتكون قائمة به سبحانه .
فإذا قيل :« اللهم ! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك » ، فعلمه تعالى صفة ذاتية قائمة به ، وقدرته صفة ذاتية قائمة به سبحانه.. وكذلك إذا قيل :« أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك » ، فرضاه تعالى ، وسخطه ، وعفوه ، وعقوبته أوصاف فعلية قائمة به سبحانه .
وإذا قيل :« أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات » ، فنور وجهه الكريم صفة فعلية له سبحانه ، والوجه الكريم صفة ذاتية له سبحانه . وأما أثر ذلك كله فهو مخلوق منفصل عنه ، وليس بصفة له سبحانه قائمة به . وقد يسمَّى هذا باسم ذاك ؛ كما ثبت في الحديث القدسي الصحيح ، يقول الله للجنة :« أنت رحمتي أرحم بك من أشاء » . فالرحمة المذكورة في هذا الحديث هي الرحمة المخلوقة ، وهي التي جعلها الله عز وجل في مائة جزء ، وهي عين قائمة بنفسها ، لا يمكن أن تكون صفة لغيرها ، وإضافتها إليه سبحانه هي إضافة خلق وملك ، وهي أثر رحمته الفعلية التي يدل عليها اسمه { الرحيم } ؛ ومنها قوله تعالى عن سليمان عليه السلام :﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾{ النمل : 19 } ، وإضافتها إليه سبحانه هي من إضافة الصفة إلى موصوفها ، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته .
وكذلك نوره سبحانه المضاف إليه ؛ فهذا قد يكون صفة له سبحانه قائمة به ، وإضافته إليه سبحانه هي إضافة صفة إلى موصوف ؛ كما في قوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ . وقد يكون صفة لأعيان قائمة بها ، وإضافته إليه سبحانه هي إضافة خلق وملك ؛ كما في قوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾ . وهذا النور الثاني هو أثر النور الأول ومقتضاه ، وهو معنى قولنا : إنه نور من نور الله تعالى .
وبهذا يظهر الفرق بين ما يضاف إلى الله عز وجل إضافة صفة ، وما يضاف إليه سبحانه إضافة خلق وملك . ومن هنا لا يجوز أن يقال في المصابيح التي في الدنيا : إنها نور الله ، ولا في الشمس والقمر ؛ وإنما يقال كما قال عبد الله بن مسعود :« نورُ السماوات والأرض من نور وجهه » .. وكذلك النور المضاف إلى العبد المؤمن ، لا يقال فيه : إنه نور الله ؛ وإنما يقال كما قال الله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ ﴾{ الزمر : 22 } ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، من حديث عبد الله بن عمرو :« إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقه في ظُلْمة ثمّ ألْقى عليْهم من نُوره فَمَنْ أصابَه منْ ذلكَ النُّور اهْتَدى ومَنْ أخطأه ضلّ » .
و{ مِنْ } هذه التي سبقت لفظ النور في النصوص السابقة ، ليست للتبعيض- كما قد يُتوَهَّم ذلك- بل هي { مِنْ } الابتدائية التي تدل على أن نور السموات والأرض ، والنور الذي عليه العبد المؤمن ، والنور الذي ألقاه الله تعالى على خلقه ؛ إنما هو نور موصوف بأنه نور من نور الله سبحانه ، وليس هو بعضه .
تأمل ذلك في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾{ الحديد : 13 } ، تجد كيف قالوا :{ انظرونا نقتبس } ، ولم يقولوا :{ انظرونا نأخذ } . والمعنى: انظرونا ، نُصِبْ من نوركم ، حتى نستضيءَ به ؛ لأنهم إذا نظروا إليهم ، استقبلوهم بوجوههم ، والنور بين أيديهم ، فيستضيئون به . فما يستضيء به المنافقون من نور هو أثر نور المؤمنين ، ونور المؤمنين هو أثر نور الله الفعلي الذي مثَّله سبحانه وتعالى بنور المصباح داخل المشكاة ، والله يهدي لنوره من يشاء .
والمِشْكَاةُ- في اللغة- هي الكُوَّةُ غير النافذة في الجدار ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه ، فيبدو قويًا متألقًا ، فإن كانت نافذة فهي كُوَّة . وفي التفريق بينهما قال أحدهم:
نورُ حَقٍّ بنفسه قامَ ، مَا احْتا ** جَ إلى كُوَّةٍ ، ولا مِشْكاةِ
ففرَّق بين الكُوَّة ، والمِشْكَاةِ . وأصلها : الوِعَاءُ يجعل فيه الشيء .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد ، قال : المشكاة : الكُوَّةُ ، بلغة الحبشة . وقيل : بلغة الهند . ويجاب عن ذلك بأن ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة ، والقِسْطاس ، والإسْتبرَق ، والسِّجِّيل ، لا يسَلَّم بأنه غيرُ عربي ، بل غايتُه أنَّ وَضْعَ العرب فيه وافق لغات أخرى كالصابون ، والتنّور ؛ فإن اللغات فيها متفقة .
وقيل : المِشْكَاةُ هي صندوق زجاجي ، يوضع فيه المصباح ، وأصلها : الوِعَاءُ يُجعَلُ فيه الشيء . ووَجْهُ تخصيصها بالذكر هنا : أنها أجمع للنور الذي يكون فيها ، من مصباح أو غيره . وهي مثل للذات المقدسة معدن الأنوار كلها ، ومنبعها ؛ ولهذا قال النجاشي مشيرًا إلى ما سمع من آي القرآن الكريم :« إن هذا ، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة » . لقد فهم- رحمه الله- ببصيرته النافذة أن القرآن ، والإنجيل يخرجان من مشكاة واحدة ، وهما نور من نور الله جل وعلا . ولنتذكَّر أن ضارب المثل إنما هو الله عز وجل ، والله تعالى يضرب لذاته وصفاته ما يشاء من الأمثال ، وهو القائل سبحانه في كتابه العزيز :﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾{ النحل : 60} . ومن هذا المثل الأعلى الذي له سبحانه وتعالى هذا المثل هنا :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... ﴾
والمصباح في اللغة هو السراج في القنديل ، وأصله من الضوء ، ومنه الصبح . والشعاع المنعكس من ضوئه وسطوعه على الأجسام الصقيلة المعتمة هو نوره ، وهو مثل لنورِ الله تعالى الفعلي ، القائم بذاته جل وعلا ، شُبِّه بنور المصباح داخل المشكاة في الوضوح والظهور، والتنوير والهداية . وكلا النورين : نور الله جل وعلا ، ونور المصباح ، يوصف بأنه نار ونور ؛ لأنهما من أصل واحد ، وكثيرًا ما يتلازمان . وكلا النورين إضافته هي من إضافة الصفة إلى الموصوف .
وزعم بعض أهل المعاني : أن التشبيه في هذا المثل هو من التشبيه المقلوب ، وأن المعنى :{ مثل نوره كمصباح في مشكاة } ؛ لأن المشبَّه به هو الذي يكون مَعْدِنًا للنور ومَنْبَعًا له ، وذلك هو المصباح ، لا المِشكاة . وما تقدم من تفسير للمشكاة يدل على أنها هي الوعاء الذي يجمع النور ويحصره ويجعله قويًا ، وبدونها يبدو ضعيفًا عاجزًا عن كشف المرئيات ؛ ولهذا كانت أحقَّ بالتقديم من المصباح . وهذا هو أحد أوجه الإعجاز البياني في هذه الآية الكريمة .
وبعد أن مثَّل الله تعالى نوره بنور المصباح في المشكاة ، وصف هذا المصباح بأنه في زجاجة ، فقال سبحانه :﴿ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ﴾ . والزجاجة هي القنديل الضخم من البِلَّوْر الشَّفَّاف الصافي ، إذا جُعِلَ فيها المصباح ، كان نوره أبين وأظهر وأكمل .
ثم وصف سبحانه الزجاجة بقوله :﴿ الزُّجَاجَة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٍّ ﴾ ؛ وذلك لعظمها وصفاء جوهرها وحسن منظرها . والكوكب الدرِّيُّ هو المضيء المتلألىء ، يشبَه الدرَّ في صفائه ولون نوره . وأهدأ النور وأجمله هو ذو اللون الدرِّيِّ .
وقال تعالى :﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ ﴾ ، ولم يقل: { كَكَوْكَبٌ دُرِّيٍّ } ؛ لأن { كَأَنَّ } فيها التشبيه المؤكَّد . وفي الفصل بين قولك :{ زيد كأنه أسدٌ } ، وقولك :{ زيد كالأسد } أنك مع { كأن } بانٍ على التشبيه من أول الأمر ، بخلاف الكاف . وأنها إنما تستعمل حيث يَقْوَى الشَّبَهُ ، حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به ؛ ولذلك قالت بلقيس لما قيل لها :﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾{ النمل : 42 } ، قالت :﴿ كََأَنَّهُ هُوَ ﴾ ؛ وإنما قالت ذلك احترازًا ، ولم تقل :{ إنه هو } . ولو قالت :{ إنه كعرشي } ، لدل ذلك على أنه غيره ، وأن ما بينهما هو مجرد شبه في صفة ، أو أكثر .
وفي ذكر المصباح ، والزجاجة منكَّرين ، ثم إعادتهما معرَّفين ، والإخبار عنهما بما بعدهما ، مع انتظام الكلام بأن يقال :{ كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري } ، من تفخيم شأنهما ، ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال ، ما لا يخفى حسنه وبَهاؤه . ويسمِّي بعض علماء البديع هذا اللون من الأسلوب: طباق التَّرْديد ، ويُعَدُّ من محاسن الفصاحة والبلاغة ، وهو أبلغ من التأكيد بتكرير اللفظ ، ولا يخفى ما فيه من جمال فني بديع . وقد فرَّق بعض علماء البلاغة بين الترديد ، والتكرير بأن اللفظة التي تكرَّر في الكلام ولا تفيد معنى زائدًا ، تكون تَكْريرًا للأولى . وأما اللفظة التي تُرَدَّدُ في الكلام وتفيد معنى غير معنى الأولى ، تكون تَرْديدًا لها .
واللام في { المصباح } ، وفي { الزجاجة } عهديَّة . وكان من الممكن أن يقع ضمير الكناية موقعهما ؛ كأن يقال :{ فيها مصباح ، هو في زجاجة ، هي كأنها كوكبٌ دُرِّي } ، ولكن تضعُف فنيَّةُ الأداء البياني ، لو استخدم الضمير بدل الاسم المعرَّف بهذه اللام العهدية .
وبعد أن شبَّه الله تعالى الزجاجة فيها المصباح بالكوكب الدريِّ ، عاد سبحانه إلى المصباح ، فأخبر أنه :﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ ﴾ . وقوله تعالى :﴿ يُوقَدُ ﴾ ، بضم الياء وفتح القاف والدال ، هي قراءة نافع وابن عامر وحفص ، وعليها يكون المعنى : المصباح في زجاجة ، يوقد المصباح من شجرة . ويجوز أن يكون الفاعل عائدًا على الكوكب الدري ، فيكون المعنى : المصباح في زجاجة ، الزجاجة كأنها كوكب دري ، يوقد الكوكب من شجرة مباركة .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ تَوَقَّدَ ﴾ ، بالتاء وفتح الواو والدال ، فعلاً ماضيًا . جعلوا التوقُّد للمصباح . ويجوز أن يكون التوقُّد للكوكب ؛ لأن الكوكب يوصف كثيرًا بالتوقُّد ؛ لما يعرض فيه من الحركات التي تشبه توقد النيران .
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر :﴿ تُوقَدُ ﴾ ، بالتاء ، جعلوا الإيقاد للزجاجة ؛ لأنه جاء في سياق وصفها ، وقرب منها ، فجعلوا الخبر عنها لقربها منه ، وبعده من المصباح . فإن قيل : كيف وصفت الزجاجة بأنها توقد ؛ وإنما يكون الإيقاد للنار ؟ قيل : لما كان الإيقاد فيها ، جاز أن يوصف به ، لارتفاع اللبس عن وهم السامعين وعلمهم بالمراد .
ثم وصف تعالى الشجرة التي يوقد منها المصباح ، أو الكوكب بقوله :﴿ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ . وهذا أحسن ما يمكن أن يقال في وصف هذه الشجرة . ثم أبدل ﴿ زَيْتُونَةٍ ﴾ من ﴿ شَجَرَةٍ ﴾ . وفي إبهام الشجرة ، ووصفها بأنها مباركة ، ثم الإبدال منها بشجرة ، تفخيم لشأنها . وقد دل تنكير لفظها أيضًا على أنها ليست شجرة مخصوصة بعينها .
والمعروف أن شجر الزيتون من أفضل الأشجار ؛ لأن كل ما فيه هو ممَّا ينفع الناس . ويقرر العلم أن شجرة الزيتون من الأشجار الخشبية التي تعمر طويلاً لمدد تزيد على مئات السنين ، وتثمر أثمارًا مستمرة بغير جهد من الإنسان ؛ كما تتميز بأنها دائمة الخضرة جميلة المنظر . وتفيد الأبحاث العلمية أن الزيتون يعتبر مادة غذائية جيدة ، ففيه نسبة كبيرة من البروتين ؛ كما يتميز بوجود الأملاح الكلسية والحديدية والفوسفاتية ، وهى مواد هامة وأساسية في غذاء الإنسان .
وعلاوة على ذلك فإن الزيتون يحتوي على فيتامين ( أ ) و( ب ) ، ويستخرج منه الزيت الذي يحتوي على نسب عالية من الدهون السائلة التي تفيد الجهاز الهضمي عامة ، والكبد خاصة ، ويفضُل زيت الزيتون كافة أنواع الدهون الأخرى : نباتية كانت ، أو حيوانية ؛ لأنه لا يسبب أمراضًا للدورة الدموية ، أو الشرايين ؛ كغيره من الدهون . يضاف إلى ذلك أنه ملطف للجلد ؛ إذ يجعله ناعمًا مرنًا . ولزيت الزيتون استعمالات أخرى كثيرة في الصناعة ؛ إذ يحضر منه بعض الصناعات ، ويدخل في تركيب أفضل أنواع الصابون . ومما يبين أهمية الزيتون من الناحية الغذائية ، والدوائية ، أن الله سبحانه ، وهو العليم الخبير بما خلق ، قد أقسم به في قوله :﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾{ التين : 1 } ، تنويهًا بشأنه وبركته وعظيم منفعته . وقد جاء في الحديث مدح الزيت ؛ لأنه منه ، ومن ذلك ما روي عن عمر- رضي الله عنه- من أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :« ائتدموا بالزيت ، وادهنوا به ؛ فإنه من شجرة مباركة » .
وبعد أن وصف الله تعالى هذه الشجرة بأنها شجرة مباركة ، وصفها بأنها :﴿ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ﴾ . وقد دل هذا الوصف على أنها ليست متحيزة إلى جهة ، دون جهة ؛ وإنما هي بين شرقية ، وغربية . وعن ابن زيد قال :« ليست من شجر الشرق ، ولا من شجر الغرب ؛ لأن ما اختص بإحدى