مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
قال الله تبارك وتعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾(إبراهيم: 25- 27)
أولاً- هذان مثلان ضربهما الله تعالى للكلمة الطيبة ، والكلمة الخبيثة ، مثَّل الأولى بشجرة طيبة ، ومثَّل الثانية بشجرة خبيثة . ومناسبتهما لما قبلهما أن الله تعالى لما ذكر مثَلَ أعمال الكفار ، وأخبر أنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وشرح أحوال الفرقة الطيبة ، وأحوال الفرقة الخبيثة ، ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين ، ويصور سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة .
والخطاب في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به العموم ، وهو استفهام معناه الإثبات ، والغرض منه التنبيه ، وإيقاظ الذهن ؛ ليترقَّب ما يرد بعد هذا الكلام ، ويقتضي أن ما بعده واقع ومعلوم ؛ إما عن طريق السماع ، كما في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل: 1) . أو عن طريق المشاهدة ، كما في هذه الآية . والمعنى : ألم تر كيف قدَّر الله تعالى مثلاً ، ووضعه في موضعه اللائق به ؟ فكان خاتمة لما تقدمه ؛ كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار .
ولم يكن هذا المثَل ممَّا سبق ضربه قبل نزول الآية ؛ بل الآية هي التي جاءت به ، فالكلام تشويق إلى رؤية كيفية ضربه . وقد صيغَ التشويقُ إليه في صيغة الزمن الماضي ، المدلول عليها بـ{ لم } التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي ، والمدلول عليها بفعل { ضرب } بصيغة الماضي ؛ لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل ، وما مُثِّلَ به . وتعليقُ فعل الرؤية بـ{ كيف } للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذاتُ كيفية عجيبة من حيث بلاغته ، وانطباقه .
ثانيًا- وقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ ، ولم يقل :{ ألم تعلم } ؛ لأن الرؤية لا تكون إلا لموجود . أما العلم فيتناول الموجود والمعدوم . وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة ، وكل رؤية فهي لمحدود ، أو قائم في محدود ؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس ، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود ، أو قائم في محدود .
أما قوله تعالى :﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ.. إلخ ﴾ فهو بيانٌ لقوله :﴿ مَثَلًا ﴾ ، وتفسيرٌ له ، شُبِّهت فيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ، وشبِّه مَثَلُ الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة ، وكلاهما من تشبيه المعقول بالمحسوس ، بجامع ما بينهما من وَجْهِ شَبَهٍ ، دلَّت عليه كاف التشبيه . وعندما تكون الكاف هي أداة التشبيه ، فإنها تدل على أن وجه الشبه الذي يجمع بين المشبه ، والمشبه به يتناول صفة ، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات .
بقي أن نذكر الفرق بين التشبيهين في هذين المثلين ، وهو أن التشبيه في المثل الأول هو تشبيه بين وجودين علميين خارجيين ، وأن التشبيه في المثل الثاني هو تشبيه بين وجودين علميين : الأول منهما ذهني ، والثاني منهما خارجي ، فدلَّ على أن الكلمة الخبيثة ، لقبحها وبشاعتها ، كأنه لا وجود لها في الواقع ، وبالتالي لا يمكن تصويرها بصورة محسوسة ، تقرِّبها إلى الأذهان ؛ ولهذا جيء بمثلها ، خلافًا للكلمة الطيبة ، ثم شُبِّه مثلها بالشجرة الخبيثة . وكذلك إذا كان الشيء لعظمه وجلاله ؛ بحيث لا يمكن تصويره بصورة محسوسة ؛ لأنه فوق كل تصور ، فإنه يؤتى بمَثَله ، ثم يشبَّه بشيء محسوس ؛ كنور الله تعالى كما في قوله :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾(النور: 35) . فالمشبه به- هنا- ليس هو نور الله جل وعلا ، وإنما هو مَثله ؛ لأن نوره سبحانه وتعالى لا مِثْلَ له ، ولا شِبْهَ . ومن هنا لا يجوز أن يقال : نورُ الله كمشكاة .. فتأمل ذلك ، فإنه من الأسرار الدقيقة في البيان المعجز !
ثالثًا- ونعود بعد ذلك إلى المفسرين ، فجمهورهم على القول بأن { الكلمة الطيبة } هي : كلمة التوحيد ، وأن { الشجرة الطيبة } هي : المؤمن . وقيل : الكلمة الطيبة هي : المؤمن ، والشجرة الطيبة هي : النخلة . وأن { الكلمة الخبيثة } هي : كلمة الكفر والشرك ، وأن { الشجرة الخبيثة } هي : الكافر . أو هي شجرة الحنظل . وقيل غير ذلك .
والظاهر من تنكير كل من ﴿ كَلِمَةٍ ﴾ ، و﴿ شَجَرَةٍ ﴾ في الموضعين أن المراد بـ{ الكلمة الطيبة } كل كلمة يراد بها حق ، وبـ{ الكلمة الخبيثة } كل كلمة يراد بها باطل ، وبـ{ الشجرة الطيبة } كل شجرة مثمرة طيبة الثمار ؛ كالنخلة ، وشجرة التين والعنب والرمان ، وغير ذلك . وبـ{ الشجرة الخبيثة } كل شجرة لا يطيب ثمرها ؛ كشجرة الحنظل ، ونحوها . فكما تثمر الكلمة الطيبة العمل الصالح ؛ كذلك تثمر الشجرة الطيبة الثمر النافع . وكما تثمر الكلمة الخبيثة العمل الفاسد ؛ كذلك تثمر الشجرة الخبيثة الثمر الفاسد .
1- ووصف سبحانه وتعالى الشجرة الطيبة في المَثَل الأول بأربع صفات :
الصفة الأولى : كونها ﴿ طَيِّبَةً ﴾ ؛ وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر والصورة والشكل ، أو طيبة الرائحة ، أو طيبة الثمرة . أي : لذيذة مستطابة ، أو كونها طيبة بحسب المنفعة . يعني : أنها كما يستلذ بأكلها ، فكذلك يعظم الانتفاع بها . قال الفخر الرازي :« ويجب حمل قوله :﴿ شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ على مجموع هذه الوجوه ؛ لأن باجتماعها يحصل كمال الطيب » .
والصفة الثانية : كونها ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ . أي : ضارب بعروقه في الأرض ، وهو صفة كمال لها ؛ لأن الشيء الطيب لا يعظم السرور به إلا إذا كان ثابتًا ، بخلاف ما لو كان معرَّضًا للزوال . والمراد أن هذه الشجرة لا تزعزعها الأعاصير ، ولا تعصف بها رياح الباطل ، ولا تقوى عليها معاول الطغيان ، وإن خيل للبعض أنها معرَّضة للخطر الماحق في بعض الأحيان .
وقرأ أنس بن مالك :﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا ﴾ . وقراءة الجمهور أقوى في اللفظ ، وفي المعنى . أما في اللفظ فلأن فيها حسن التقسيم :﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ . وأما في المعنى فلأن الصفة فيها أجريت على الشجرة لفظًا ومعنى . وأما قراءة أنس- رضي الله عنه- فقد أجريت الصفة فيها على الشجرة لفظًا فقط . وأنت إذا قلت : مررت برجل أبوه قائم ، كان أقوى من قولك : مررت برجل قائمٌ أبوه ؛ لأن المخبر عنه إنما هو الأب ، لا رجل .
والصفة الثالثة : كونها ﴿ فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ . أي : سامق شامخ متعال ذاهب في الفضاء على مد البصر ، قائم أمام العين ، يوحي بالقوة والثبات . وهو أيضًا صفة كمال لها ؛ لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية ، كانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب . والمراد بـ{ فَرْعِهَا } : أعلاها ورأسها ، وإن كان المشبه به ذا فروع ؛ فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس ؛ وكأن هذه الشجرة تطل بفروعها على الشر والظلم والطغيان من عل ، وإن خيل إلى البعض أحيانًا أن الشر يزحمها في الفضاء .. وكذلك كلمة الحق تعلو ، ولا يُعلَى عليها ؛ لأنها هي العليا دائمًا وأبدًا .
والصفة الرابعة : كونها ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ . أي : لا ينقطع ثمرها أبدًا ؛ فهي تؤتيه كاملًا حسنًا كثيرًا طيبًا مباركًا ، في كل وقت وقَّتَه الله تعالى لإثمارها . وهو صفة كمال أيضًا ؛ إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ .
وقال تعالى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا ﴾ ، ولم يقل :﴿ تُعْطي ثمَرَهَا ﴾ ، لما في الإيتاء من سرعة الإعطاء ، وسهولته أولاً . وثانيًا ؛ لأن الأُكُل- بضم الهمزة والكاف- يطلق على كل ما يؤكل من الثمر ، فهو أخصُّ من الثمر ؛ لأن الثمر منه ما لا يؤكل .
والحينُ في قوله تعالى :﴿ كُلَّ حِينٍ ﴾ القطعة من الزمان . واختلف في تقديره : فقيل : سنة ؛ لأن الشجرة تحمل الثمرة من العام إلى العام . ولذلك قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء :« من حلف أن لا يفعل شيئًا حينًا ، فإنه لا يفعله سنة » . واستشهدوا على ذلك بهذه الآية . وقال عكرمة وغيره :« الحين ستة أشهر » ، وهي مدة بقاء الثمر ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال ابن المسيب :« الحين شهران » ؛ لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين . وقال ابن عباس أيضًا ، والضحاك ، والربيع :« كل حين . أي : كل غدوة وعشية » .
وقد ورد الحينُ في موضع آخر ، يراد به أكثر من ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾(الإنسان: 1) . قيل في التفسير : أربعون عامًا . وحكى عكرمة أن رجلًا قال :« إن فعل كذا وكذا إلى حين ، فغلامه حر . فأتى عمر بن عبد العزيز ، فسأله ، فسألني عنها ، فقلت : إن من الحين حينًا لا يدرك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾(البقرة: 36) . فأرى أن تمسك ما بين صِرام النخلة إلى حملها . فكأنه أعجبه ؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر ، اتباعًا لعكرمة ، وغيره » . وقال الزجاج والأزهري :« جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحينَ اسم كالوقت ، يصلح لجميع الأزمان كلها ، طالت ، أم قصرت » . وقال النحاس:« وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن الحينَ- عند جميع أهل اللغة إلا من شذَّ منهم- بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان، وكثيره » .
والظاهر من السياق أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت ، من صيف أو شتاء ، أو ليل أو نهار ؛ كذلك الكلم الطيب ، لا يزال يصعد إلى الله تعالى ، ويرفعه العمل الصالح في السماء ، آناء الليل وأطراف النهار ، في كل وقت ، وكل حين .
وقوله سبحانه :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ . أي : بتسييره وتكوينه . ويدل على أن كل شيء لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى . وفيه دقيقة عجيبة ؛ وذلك لأن ما أذن الله في إيتائه ، لا يكون إلا على أحسن حال وأكمل وجه . وخُصَّ إيتاء الأُكُل بالشجرة الطيبة بإذن ربها ، على سبيل المدح والتشريف . قال الرازي :« ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة ، أم غيرها ؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ، ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه ؛ سواء كان لها وجود في الدنيا ، أو لم يكن ؛ لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل . واختلافهم في تفسير الحين أيضًا من هذا الباب ، والله أعلم » .
وعقَّب سبحانه وتعالى على ذلك بقوله :﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ وذلك لأنها أمثال مصداقها واقع في الأرض ؛ ولكن الناس كثيرًا ما ينسونه في زحمة الحياة ، ففي ضربها لهم زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني ؛ وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم ، فإذا ذكر ما يماثلها أو يشابهها من المحسوسات ، ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة ، وانطبق المعقول على المحسوس ، وحصل به الفهم التام ، والوصول إلى المطلوب .
2- وفي مقابل تلك الصفات التي وصف الله تعالى بها الشجرة الطيبة التي شبَّه بها الكلمة الطيبة ، وصف الشجرة الخبيثة التي شبَّه بها مثل الكلمة الخبيثة بثلاث صفات :
الصفة الأولى : كونها ﴿ خبيثة ﴾ ؛ وذلك يحتمل- أيضًا- أن يكون بحسب الرائحة ، أو بحسب الطعم ، أو بحسب الصورة والمنظر ، أو بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة . والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات ، وإن لم تكن موجودة ، إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة ، كان التشبيه بها نافعًا في المطلوب . وأصل الخبَث في كلام العرب : المكروه . فإن كان في الكلام فهو الشَّتْم . وإن كان من المِلَل فهو الكفر . وإن كان من الطعام فهو الحرام . وإن كان من الشراب فهو الضار ؛ ومنه قيل لما يُرْمَى من مَنْفِيِّ الحديد : الخبَث ، ومنه الحديث :« إن الحمَّى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبَث » . وخبَثُ الحديد والفضة : ما نفاه الكير ، إذا أذيبا , وهو ما لا خير فيه .
والصفة الثانية : كونها ﴿ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ﴾ . أي : استؤصلت . وهذه الصفة جاءت في مقابلة :﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ في صفة الشجرة الطيبة . وحقيقة الاجتثاث أخذُ الجُثَّة كلها- وهي شخص الشيء- من فوق الأرض ؛ لكون عروقها قريبة من الفوق ، فكأنها فوق . وهذا يعني : أنه ليس لها أصل ، ولا فرع ، وليس لها ثمرة ، ولا فيها منفعة .
والصفة الثالثة : كونها ﴿ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ . وهذه كالمتمِّمة للصفة الثانية ، فنفى سبحانه أن يكون لها مكان تستقر فيه ، وأن يكون لها استقرار في المكان ، فإن القرار يراد به مكان الاستقرار ؛ كما قال تعالى في صفة جهنم :﴿ جهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾(إبراهيم: 29) ، وقال تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء ﴾(غافر:64) . ويقال : فلان ما له قرار . أي : ما له ثبات . وقد فسِّر القرار في الآية بهذا وذاك . ويقال : قرَّ الشيء قرارًا ؛ كقولك : ثبت ثباتًا . قال الزمخشري :« شُبِّه بها القول الذي لم يعضَّد بحجة ، فهو داحض غير ثابت . والذي لا يبقى ؛ إنما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لَجْلَجٌ . وعن قتادة : أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا ، ولا في السماء مصعدًا ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة » .
وقرىء :﴿ ومَثَلَ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ ، بنصب { مثَل } ، عطفًا على قوله تعالى :﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ . وقرأ أُبَيٌّ :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبيثةً كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ . ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة ، للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان ؛ وإنما ذلك أمر ظاهر ، يعرفه كل أحد .
هذا هو مثل الكلمة الطيبة ، ومثل الكلمة الخبيثة . وليس هذا ، وذاك مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع ؛ وإنما هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان . والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي ، مهما زحمه الشر ، وأخذ عليه الطريق . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به ، فقلما يوجد الشر خالصًا ، وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير ، فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ، ويتهشم مهما تضخم واستطال .
رابعًا- ثم أخبر الله تعالى عن فضله وعدله في الفريقين : أصحاب الكلمة الطيبة ، وأصحاب الكلمة الخبيثة ، فبين أنه يثبِّت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت ، أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة ، وأنه يضل الظالمين عن القول الثابت ، فيضل هؤلاء بعدله لظلمهم ، ويثبِّت الذين آمنوا بفضله لإيمانهم ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ . أي : يديمهم على القول الثابت في الدنيا والآخرة ، ويمنعهم من الزلل ؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين ، فإن لم يثبِّته ، وإلا زلَّت سماءُ إيمانه وأرضه عن مكانهما ، وقد قال الله عز وجل لأكرم خلقه عليه :﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 74) .
وفي ظل الشجرة الثابتة مثلًا للكلمة الطيبة ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾ . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ، ولا ثبات مثلًا للكلمة الخبيثة ﴿ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ .. وهكذا تتناسق ظلال التعبير ، وظلال المعاني كلها في السياق !
و﴿ الْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ هو القول الحق والصدق الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه ، وهو ضد القول الباطل الكذب الذي لا يثبت بحجة ، ولا برهان . وعليه فالقول نوعان : ثابت له حقيقة ، وباطل لا حقيقة له . وأثبت القول كلمة الحق ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبِّت الله تعالى بها عباده في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا ، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلوِّيًا وأقلهم ثباتًا . وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة . وقد سئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ، فقال :« والله ما فهمت منه شيئًا ، إلا أني سمعت لكلامه صولة ، ليست بصولة مبطل » .
وقوله تعالى :﴿ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين لم يتمسكوا بحجة ، ولا برهان في دينهم ؛ وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ؛ كما قلد المشركون آباءهم ، فقالوا :﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾(الزخرف: 22) . فهؤلاء يضلهم الله تعالى بظلمهم وبعدهم عن النور الهادي ، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات ، واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى ، لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود . والمراد بـ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ : الكفرة المشركين ، بدليل مقابلتهم بـ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ . ووصفهم بالظلم ؛ إما باعتبار ظلمهم لأنفسهم ، حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ، فلم يهتدوا إلى القول الثابت . أو باعتبار أنهم قلدوا أهل الضلال ، وأعرضوا عن البينات الواضحة . ومعنى إضلالهم في الدنيا : أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضل وأزل .
وقوله تعالى :﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ﴾ . أي : يفعل ما توجبه الحكمة ؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم. وفي إظهار الاسم الجليل ﴿ اللَّهُ ﴾ في الموضعين من الفخامة ، وتربية المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبادىء التثبيت ، والإضلال ؛ فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر . وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات ، وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة بـ( سورة إبراهيم ) ، أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات ، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة ، تحتوي دائمًا على الحقيقة الكبرى .. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل ، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير ، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار ، سبحانه وتعالى عما يشركون !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك