مثل عيسى عند الله تبارك وتعالى
قال الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾(آل عمران: 59-60)
أولاً- ذكر الله سبحانه هاتين الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى ، لمَّا قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم وفدٌ من نصارى نجران ، وناظروه في المسيح- عليه السلام- فأنزل الله عز وجل فيه ما أنزل ، وبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود ، والنصارى ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾(مريم: 34) .
أما اليهود فقد ارتضوا الجريمة مركبًا ، فقتلوا أنفسهم ، وقتلوا الحق معهم ، وقالوا في المسيح : إنه ولِدَ- كما يولَد الناس- من ذكر وأنثى ، وإن ميلاده كان على فراش الإثم والفاحشة ، مع قولهم لعنهم الله : إنه ساحرٌ وكذاب . وأما النصارى فقد قصُرَت مداركهم عن إدراك قدرة الله تعالى ، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة ، وهي أن الله عز وجل قدير على كل شيء ، يخلق ما يشاء ممَّا يشاء ، وكيف يشاء ، فقالوا في المسيح : إنه ابْنُ الله ؛ كما قالت اليهود : عُزَيْرٌ بْنُ الله ، فردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم قولهم ، ووبَّخهم على افترائهم وكذبهم بقوله :﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾(التوبة: 30) .
وقالوا أيضًا : إن الله هو المسيح ، تجسَّد بشرًا في جسد عذراء ، وإنه ثالث ثلاثة ، مع دعوة المسيح- عليه السلام- لهم إلى عبادة الله تعالى وحده ، وتحذيره لهم من الشرك وعواقبه الوخيمة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه :
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(المائدة:72-73)
وقد نهى الله تعالى النصارى عن الغلوِّ في دينهم ، وأن يقولوا على الله تعالى غير الحق ، وبين في أكثر من آية أن المسيح بن مريم رسول كغيره من الرسل ، خلقه بكلمة منه ، وبنفحة من روحه ؛ كما خلق هذا الوجود كله بنور من نوره ، وفيض من فيضه ، فقال سبحانه :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴾(النساء: 171)
وأقرب مثل لعيسى عند الله تعالى في الخلق هو مثل آدم ، والعرب تضرب الأمثال لبيان ما خفيَ معناه ، ودقَّ إيضاحه . ولمَّا خفي سِرُّ ولادة عيسى- عليه السلام- من غير أب ؛ لأنه خالف المعروف ، ضرب الله تعالى له المثل بآدم الذي استقرَّ في الأذهان ، وعُلِمَ أنه خُلِقَ من غير أب وأم ، فقال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ . وذكر المفسرون :« أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : وما أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد : قال : أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول . فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقاً ، فأرنا مثله . فأنزل الله عز وجل هذه الآية » .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ ﴾ استئناف بياني ، فتعلقه بما قبله تعلُّقٌ معنوي ، لا صناعي ، خلافًا لمن زعم أنه جوابٌ لقسم ، وذلك القسم هو قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾(آل عمران:58) ؛ كأنه قيل :﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ ﴾ . وأقسِمُ بِـ﴿الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ ، ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ ﴾ ، فيكون الكلام قد تمَّ عند قولِه تعالى :﴿ مِنَ الآيَاتِ ﴾ ، ثم استأنف قسمًا . وهذا ممتنع ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنظم القرآن ، وإذهابٌ لرونقه وفصاحته .
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ﴾ مشبه ، و﴿ مَثَلُ آَدَمَ ﴾ مشبَّه به ، والكاف بينهما أداة التشبيه . و﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فهو تفسيرٌ لما أُبْهِمَ في المثل ، وتفصيلٌ لما أُجمل فيه ، وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وَجْهِ الشَّبَه بين المَثَلَين . و﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ . أي : في تقدير الله تعالى وحكمه ، وهو قيدٌ قيِّد به مثلُ عيسى دون مثل آدم ؛ لأنهم جعلوا خلق عيسى من أنثى بلا ذكر موجبًا له نسبة خاصة عند الله عز وجل ، وهي البُنُوَّة والإلهيّة ، فبيَّن الله تعالى أن نسبة المسيح إلى الله سبحانه لا تزيد على نسبة آدم إليه شيئًا ، في كونه خلْقًا غيرَ معتاد للمحاجِّين فيه . ومن هنا كان لابد من ذكر هذا القيد .
ويتفق العلماء على أنه لا بد من مشابهة معنوية بين من ضُرِبَ له المثل ، ومن ضُرِبَ به ، ولو من وجه واحد ، ولا يُشْترَط المشابهة بينهما في جميع الوجوه . ولا خلاف بينهم أن المعنى الذي وقعت فيه المشابهة بين عيسى ، وآدم هو كون كل واحد منهما خلق من غير أب ، لا أن عيسى خلِق من تراب ؛ فإن آدم خلق من تراب ، وعيسى لم يخلق من تراب ، وإن كان أصل خلقهما- في الحقيقة- يرجع إلى التراب ، فكان بينهما فرق من هذه الجهة .
وفي الآية دليل على صحة القياس ، والتشبيه قياس ، وهو ردُّ فرع إلى أصل لشَبَهٍ مَّا ؛ لأن عيسى رُدَّ إلى آدم لشَبَهٍ بينهما ، وهو الوجود من غير أب ، فهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله تعالى خارجًا عمَّا استقرَّ واستمرَّ في العادة من خلق الإنسان مُتولِّدًا من ذكر وأنثى ؛ كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ﴾(الحجرات: 13) . فإن جاز ادعاء البُنُوة والإلهيَّة في عيسى لكونه مخلوقًا من غير أب ، فجواز ادِّعائهما في آدم وغيره بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، وإذا كان ذلك باطلاً فدَعْواه في عيسى أشدُّ بطلانًا وأظهر فسادًا .
ومن هنا كان الغرض من هذا التشبيه هو إقامة الدليل والحجة على المحاجين بخلق عيسى من غير أب ، مع اعترافهم بخلق آدم من غير أب وأم . والوجود من غير أبٍ وأمٍّ أغرب في العادة من والوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ؛ ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادة شبهته ، وأوقع في النفس ؛ فإن إنكار خلق عيسى من غير أبٍ ممَّن اعترف بخلق آدم من غير أبٍ وأمٍّ ، ممَّا لا يصح عند العقلاء .
وذكر المفسرون أن بعض العلماء أسر بالروم ، فقال لهم : لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فحزقيل أولى ؛ لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالمًا . وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردَّ الله نورها . وصح أن أعمى دعا له فردَّ الله له بصره . وفي حديث الشاب الذي أُتِيَ به ؛ ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ، ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه : أنه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردَّ الله عليه بصره .
فإن قيل : لماذا خلق الله تعالى عيسى من أنثى بلا ذكر خلافًا للمعتاد ؟ فالجواب : أن الله عز وجل أراد أن يظهر قدرته لخلقه ، وأن يبين لهم عموم هذه القدرة في خلق الإنسان على الأقسام الممكنة ، فخلق آدم من غير ذكر وأنثى ، وخلق الناس جميعًا من ذكر وأنثى ؛ كما قال سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ﴾(الحجرات: 13) ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾(مريم:21) ، ﴿ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾(الأنبياء:91) .
ثالثًا – وجملة ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ فيها وجهان من الإعراب ؛ أظهرهما على ما تقدم : أنها استئنافية مُفسِّرةٌ لوجهِ الشبه بين المَثَلَين . والثاني : أنها حال من آدم . ولما كان ﴿ خَلَقَهُ ﴾ ماضيًا ، والماضي لا يجوز أن يكون حالاً أنت فيها ، تأولوا الآية على تقدير ( قد ) قبل الفعل الماضي ؛ لأنها تقربه من الحال ، فقالوا تقدير الكلام : كمثل آدم ، قد خلقه من تراب . وهذا تكلف لا داعي له ، والصواب- كما قال الزجاج- أن ﴿ خَلَقَهُ ﴾ كلام مقطوع ممَّا قبله ، مُضَمَّنٌ تفسير المثل ، ومَثَّلَ لذلك بقوله :« وهذا كما تقول في الكلام : مثلك كمثل زيد ، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ، ثم تخبر بقصة زيد ، فتقول : فعلَ كذا وكذا » .
ولسائل أن يسأل : لمَاذا قال تعالى هنا :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ، ولم يقل
خلقه من طين ) ، أو ( خلقه من صلصال ) ؛ كما أخبر سبحانه في قوله :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴾(ص: 71) ، وقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾(الحجر: 28) ؟
وقيل في الجواب : إنما عُدِل عن ذكر الطين الذي هو مجموع الماء والتراب ، والصلصال الذي هو الطين اليابس ، إلى ذكر مجرَّد التراب ، لمعنى لطيف ؛ وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما . فلما كان المقصود محاجَّة من ادَّعى في المسيح- عليه السلام- البُنُوَّةَ والإلهية ، مثَّله بآدم ، ثم أتى بما يصَغِّر من أمر خلقه عند من اعترف بخلقه من غير أب وأم ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من غيره من العناصر .
ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل ، أخبرهم على لسان عيسى أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيمًا لأمر ما يخلقه بإذنه ؛ إذ كان المطلوب الاعتدادُ عليهم بخلقه ؛ ليُعظِّموا قدر النعمة به ، فقال :﴿ قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾(آل عمران: 49) .
وأما قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾(الرعد: 45) فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر ؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق ، وليس في العناصر الأربعة ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء ؛ ليدخل الحيوان البحري فيها . وفي ذلك كله من مشاكلة اللفظ للمعنى ما لا يخفى على ذوي البصائر بكلام الله عز وجل .
رابعًا- واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ؛ فذهب بعضهم إلى أن الخلق معناه : الإنشاء والتكوين ، ومذهب الجمهور أن الخلق معناه : التقدير والتصوير ، وأن المعنى : قدَّره من تراب . أي : صوَّر قالبه كالتمثال الأجوف ، وتركه في الشمس ملقًى على باب الجنة أربعين سنة حتى جفَّ . فلما رأته الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم فزعًا منه إبليس ، فكان يمر به ، فيضربه برجله فيصوِّت الجسد ؛ كما يصوت الفخَّار ، ويُسمَع له صَلْصَلةٌ ؛ فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً ، ويقول : لأمر ما خلقت ! ويدخل في فيه أو من أنفه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه لأهلكنَّه .
وهذه الصورة التي صوَّروا بها خلق آدم جاءت عن الكهنة التوارتيين الذين كانوا ذوي فهمٍ بدائيّ وناقص ، ففي سفر التكوين نقرأ النصّ التوراتي :« وجبَلَ الربُّ الإلهُ آدم ترابًا من الأرض ، ونفخ في أنفه نسمة حياة ، فصار آدم نفسًا حيّة »(سفْر التكوين: 2/ 7) . ومع أن هذه الصورة مخالفة لما ورد في القرآن والتراث الصحيح عن كيفية خلق آدم ، فقد أخذ بها للأسف خلقٌ كثيرٌ ، وهي صورة مزرية لا تليق بمن خلقه الله سبحانه على صورته بيديه ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وجعله خليفته في أرضه .
وحقيقة القول في هذه المسألة :
أن الخلْق- في اللغة- هو الإيجاد الفعلي المبدأي ، على تقدير ورفق ، وترتيب وإحكام . وبعبارة أخرى هو الإيجاد الفعلي المبدأي وفق خصائص معينة ، تتطابق مع إرادة قاضية قاصدة ؛ ولهذا فهو يباشر مفعوله دفعة واحدة . وأصلُه : التقديرُ المستقيمُ . والتقدير هو تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به ، ولا يسمَّى خلقًا إلا بعد التنفيذ . فلا يقال : خلقتُ الشيء ، إلا إذا أوجدته بعد تقديره ؛ إما من غير أصل ولا احتذاء ؛ كقوله تعالى :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾(الأنعام: 1) . أو من أصل سابق ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾(الذاريات: 49) . والأول لا يكون إلا لله تعالى ، بدليل قوله :﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾(الأعراف: 54) ؛ ولهذا قال سبحانه في الفصل بينه وبين غيره :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾(النحل : 17) . ثم قال :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾(النحل : 19) . وأما الثاني الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره ؛ كعيسى- عليه السلام- حين قال لبني إسرائيل :﴿ قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾(آل عمران: 49) .
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون: 14) يدل على أنه يصح أن يوصف غير الله تعالى بالخلق ، قيل : إن هذا على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أن غير الله سبحانه يبدع ويوجد ؛ فكأنه قيل : فاحْسَبْ أن ههنا مبدعين وموجدين ، فالله أحسنهم إبداعًا وإيجادًا ، على ما يعتقدون ، فنسبة الخلق إليهم من باب التجوز .
ويتحصَّل ممَّا تقدَّم :
أن الخلق- في القرآن- معناه : الإيجاد الفعلي ، وأصله التقدير المستقيم ، وهو فعل الشيء وفق خصائص معينة تتطابق مع إرادة قاضية قاصدة ، وهو من صفات الله عز وجل التي لا يجوز أن تنسب لغيره من البشر . وعلى هذا القول جمهور أهل السنّة والجماعة ، واحتجوا عليه بقول المسلمين :« لا خالق إلا الله » . ولو كان الخلق عبارة عن التقدير ، لما صح ذلك ؛ لأن المعنى يؤول إلى أنه « لا مقدِّر إلا الله » ، وهذا غير صحيح . فثبت أن الخلق معناه : الإيجاد ، والخالق هو الله عز وجل الذي خلق كل شيء وأوجده بقدرته ، ولا خالق سواه ؛ كما قال سبحانه :﴿ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾(الرعد: 16) .
فإذا عرفت ذلك ، تبيَّن لك أن كون آدم مخلوقًا من تراب لا يعني أنه مقدَّر على صورة تمثال طينيٌّ أجوف- كما زعم كهنةُ التوراة ومن أخذ بقولهم- ولو كان كما زعموا ، لوجب أن يقال : قدَّره ، أو صوَّره ، أو جبَله من تراب ؛ بل الآية صريحة أن الله تعالى خلقه كائنًا حيًّا من تراب ، وهو إذ ذاك غير تراب . فمعنى ﴿ خَلَقَهُ ﴾ هو هذا . أي : نقله إلى طور آخر غير الطور السابق ؛ كما قال تعالى :﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾(نوح: 14) . ولو كان آدم تمثالاً طينيًّا أجوف ، لوجب أن يكون الناس كلهم تماثيل طينيّة جوفاء ؛ لأنهم خلقوا من تراب ؛ كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ﴾(الحج: 5) . فليس آدم وحده هو المخلوق من تراب ؛ لنقوم بتصوُّر تمثال الطين الأجوف ؛ بل الناس كلهم بمن فيهم آدم كـ( جنس بشري ) خلقوا من تراب أحياء ، لا تماثيل جامدة ؛ كما يزعم التوراتيون . والناس بعد مبعثهم سيخلقون من تراب أيضًا أحياء ، وهذا ما بينته أقوال الكافرين :﴿ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾(الرعد: 5) . والله سبحانه يردُّ على اليهود والنصارى الذين قالوا :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ بالمنطق نفسه ﴿ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾(المائدة: 18) . أي : أنتم مجرد كائنات بشرية حيَّة مثل غيركم ، فهم ليسوا تماثيل .
والله سبحانه حين قال للملائكة :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾(ص: 71) ، أو ﴿ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾(الحجر: 28) فهذا يعني بالضرورة أنه سيخلق بشرًا حيًّا ، لا جمادًا . ولو كان جمادًا ، لكان ينبغي أن يقال
خالق من طين كهيئة بشر ) ؛ كما قال عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل :﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾(آل عمران: 49) . ولو قال
أني أخلق لكم من الطين طيرًا ) ، لكان على هذا الطير أن يطير ؛ ككائن حيٍّ .
فثبت أن هذا الكائن البشري الذي أخبر الله تعالى مرة أنه خلقه ﴿ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ، وأخبر الملائكة مرة أخرى أنه ﴿ خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾(ص: 71) ، أو ﴿ مِنْ صَلْصَالٍ ﴾(الحجر: 28) هو مخلوق حيُّ متحدِّرٌ من سلالة كائنات بشرية حية خلقت من طين ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾(السجدة: 7-
.
ولفظ ( الإنسان ) في القرآن يشمل آدم وذريته بالضرورة ، ويعني ذلك الكائن الاجتماعي الواعي المكلف الذي عدِّل جينيًّا ، ثم نفخ فيه الروح ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾(السجدة: 9) ؛ ليتميَّز بذلك عن غيره من المخلوقات البشرية ، ويتطور إلى معرفة ربه ، ومعرفة الكون ، فوعى ذاته ، وعلم دوره السامي المعهود به ، واكتسب منظومة القيم ، وابتدأ يُعلَّم الحضارة واللّغة بهذه الروح الربّانية التي هي الوديعة التي حملها هذا الإنسان العاقل الواعي المُستحدَث من ركام البشر وسلالتهم ؛ ولهذا أمر الله سبحانه الملائكة أن يسجدوا له ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾(ص: 72، والحجر: 29) .
فآدم بهذا الاعتبار هو أول كائن إنسانيٍّ ، لا أب له ولا أم ، ومن شجرته وذريته نُسِلت الملياريَّة الإنسانية هذه ، وورثت منه نسمة الروح الربَّانيَّة الواعية ، سوى عيسى الذي حصل عليها مباشرة بنفخ الروح في أمه ؛ كما حصل عليها آدم مباشرة بنفخ الروح فيه . وآدم بهذا الاعتبار أيضًا يُعدُّ والد الإنسانية ، خلافًا للفهم السائد من أنه والد البشرية ، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي أخرجه ابن سعد ، عن أبي هريرة :« الناس ولد آدم ، وآدمُ من تراب » . وقوله عليه الصلاة والسلام في بيانه الختامي في حج الوداع :« كلكم لآدم ، وآدمُ من تراب » يعني أن هذا الجنس البشري برمته ، الذي أمامنا مع الذي باد والذي سيأتي ، قبل أن يكون من نطفة ، هو من أصل ترابي ؛ إذ مادة جسمه ترابية .
هكذا خلق الله سبحانه آدم ، وليس كما توهموا وأوهموا . ولو أنهم تتبّعوا النصّ التوراتيّ نفسه ، لرأوا الحقيقة بازغة على خلاف ما توهّموا وأوهموا ، ففي سفر التكوين نقرأ :« وقال الله : لتُخرج الأرض ذوات أنفس حيّة كجنسها بهائم ودبّابات ووحوش أرض كأجناسها ، وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فخلق الله الإنسان على صورته .. ذكرًا وأنثى خلقهم »(سفر التكوين: 1 / 24- 28) . فمن خلقه الله سبحانه على صورته وشبهه لا يمكن أن يخلقه تمثالاً طينيًّا أجوف يعبث به إبليس اللعين كما يشاء .
وأما عيسى- عليه السلام- فقد بيَّن المثل أنه لم يخرج عن طرق الخلق البشرية ، وأن له جسم ترابي مُستكنٌّ في بويضة أمه التي فعِّلت وخصِّبت بالمَلك التدبيري الذي تمثَّل لها ﴿ بَشَراً سَوِيًّا ﴾(مريم: 17) . ثم هو بشر فيه روح حصل عليها بنفخ الملك في أمه البتول ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾(الأنبياء91) ، باعتباره لم يأت من السلالة الذكورية لآدم ، فلم يرث نسمة الروح العاقلة الواعية ؛ كما ورثها بنو آدم . فتشابهه- في الحقيقة- مع آدم في هذه الخصيصة بالذات لا أكثر ، بدليل أن القصة نفسها يسردها الله تعالى في سورة ( مريم ) ، ثم يعقب عليها بقوله :﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(مريم: 34) . فهو- عليه السلام- بشر فيه روح كآدم وبنيه من بعده . والرسل- عليهم السلام- كلهم أقروا بهذه البشرية ، فقالوا :﴿ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾(إبراهيم: 11) ، وكون عيسى- عليه السلام- رسولاً من رسل الله تعالى ، وعبدًا من عباده ، وخلقًا من خلقه ، لم يخرج عن هذا المنوال السائد ، ولا عن هذا النظام منذ آدم قيد شعرة . والاستنساخ الجيني لم يخرج أيضًا عن هذه الطريقة .
خامسًا- ومما تقدم يمكننا أن نفهم أن قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ المعطوف على قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ لترتيب المُخْبَر عنه ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه لترتيب الخبر ؛ لأن المعنى- على ما تقدم- خلقه كائنًا حيًّا من سلالة البشر الترابية ، ثم قال له :﴿ كُنْ ﴾ . أي : كن إنسانًا ناطقًا عاقلاً واعيًا ذا روح ، وهو لم يكن كذلك ؛ بل كان دهرًا نفسًا حيَّة ، لا روح فيه ، ثم نفخ فيه الروح بعد التسوية . فالتَّكوين المشار إليه بـ﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه بعد التسوية على الصفة المقصودة بإيجاد الروح فيه ، ونقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية ، وهو أرفع رتبة من ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود . فالترتيب في الآية -على هذا- ترتيب زمانيّ ؛ إذ بينَ خلق آدم بشرًا حيًّا من تراب ، وجعله إنسانًا بإيجاد الروح فيه زمان طويل .
وهذا ما أشكل على جمهور المفسرين ، والتبس عليهم فهمه ، لانحباسهم في الكماشة التوراتية ، فعدوا الآية مشكلة ، فهذا الفخر الرازي يقول :« في الآية إشكال ؛ وهو أنه تعالى قال :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدمًا على قول الله له : كن ، وذلك غير جائز » . وإذا كان ذلك غير جائز ، فلا بد من تأويله ، وتأويله عندهم على وجهين :
أحدهما : قدَّر قالبه من تراب . أي : جبله كالتمثال الأجوف ، ثم قال له : كن . وهو عبارة عن إيجاد الروح فيه ، وتصييره لحمًا ودمًا ، وإدخاله في الوجود . فالخلق- على هذا- عبارة عن التقدير ، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص . وكل ذلك متقدم على وجود آدم تقديمًا من الأزل إلى الأبد . فثبت أن الخلق مقدَّم على التكوين .
والثاني : قدَّر جسده من طين ، ثم كان من أمره في الأزل أن قال له : كن . أي : أنشأه بشرًا . وقيل : خلقه من تراب ، ثم أخبرَكم أنه قال له : كن ، من غير ترتيب في الخلق . ومثلوا لذلك بقولهم
أعطيتك اليوم درهمًا ، ثم أعطيتك أمس درهمًا . أي : أخبرك أني أعطيتك اليوم درهمًا ، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا ) ؛ وكذلك قوله
أخبركم أولاً بخلقه من تراب ، ثم أخبركم بقوله : كن ) . والذي حملهم على هذا التأويل أنه- على حد قولهم- لا تكوين بعد الخلق ؛ لأن الخلق معناه : الإنشاء والتكوين .
وفساد هذين التأويلين ظاهر لمن تأمل الآية أدنى تأمل . أما الأول فهو مبنيٌّ- كما تقدم- على تصوَّرهم عن آدم أنه جُبِل من طين كالتمثال ، ثم سوته يد الإله ، ونفخ من روحه ، وهو تصوُّر كَهَنوتيٌّ ساذج . وأما الثاني فلأنه لم يفرق بين الخلق والتكوين من جهة ، وأنه لم يراع الترتيب في صياغة الآية الكريمة من جهة أخرى ، فأعاد ترتيبها من جديد ، قياسًا على مثال مفتعل ، لا يمت إلى الفصاحة والبلاغة بأية صلة . ولست أدري كيف يقاس كلام الله تعالى الذي هو الأعلى في البلاغة والفصاحة والبيان بقول مصطنع لا يمكن أن ينطق به لسان أعجمي ، فضلاً عن لسان عربي مبين ! وليت شعري كيف يكون قوله سبحانه :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، مثل قولهم
أعطيتك اليوم درهمًا ، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا ) ! تأمل الآية جيدًا ، ثم انظر كيف تفكَّك نظمها وأعيد ترتيبها ، ومُسِخَ معناها بهذا التقدير هكذا
خلقه من تراب ، ثم أخبركم أنه قال له أمس : كن ) . والوجه الذي ينبغي أن يكون عليه ترتيب الآية على هذا التأويل الباطل
قال له : كن في الأزل فيكون ، ثم خلقه من تراب ) .
ولا يخفى ما في ذلك كله من تفكيكٍ لنظمِ القرآن ، وإذهاب لرونقه وفصاحته ، وإفساد لمعناه . والصواب- والله أعلم- ما قدمناه من أن معنى قوله تعالى :﴿ كُنْ ﴾ بعد قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ : كنْ إنسانًا ناطقًا عاقلاً واعيًا ، وهو لم يكن كذلك ؛ بل كان دهرًا كائنًا حيًّا ذا نفس لا روح فيه ، ثم نفخ فيه الروح بعد تسويته .
سادسًا- أما قوله تعالى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ فظاهره يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في المستقبل المتراخي ، خلافًا لقوله :﴿ كُنْ ﴾ الذي يقتضي ظاهره أن يكون المكوَّن واقعًا في الحال ؛ فأمره سبحانه بين ( الكاف والنون ) . وفي ذلك ما يسأل عنه : كيف يقول الله للشيء :﴿ كُنْ ﴾ ، ثم لا يكون ذلك الشيء واقعًا في الحال ؛ بل يكون واقعًا في المستقبل ؟ فكيف يكون هذا ؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل تحول بين القدرة ، وإمضاء ما قدَّرت على الفور وفي الحال ؟
وقد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن ذلك ، وذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ حكاية حال ماضية ، ولا قول هناك حقيقة ؛ وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده ؛ إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر ؛ ولهذا قالوا : أصل الكلام
كُنْ ، فَكَانَ ) . وإنما عبَّر بصيغة المضارع دون صيغة الماضي ، بأن يقال : فَكَانَ ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة في الذهن كما وقعت .
وهذا القول مبنيٌّ على أن ﴿ ثُمَّ ﴾ لترتيب الخبر ، وفي ذلك قال البغوي ما نصُّه :« فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل : معناه : خلقه ، ثم أخبركم : أني قلت له : كن فكان ، من غير ترتيب في الخلق ؛ كما يكون في الولادة ، وهو مثل قول الرجل : أعطيتك اليوم درهمًا ، ثم أعطيتك أمس درهمًا . أي : ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » .
ولكن هذا الذي أجابوا به خلافُ الظاهر ، يأباه نظم الكلام ومعناه ، وبيانه : أن قول الله تعالى للشيء ﴿ كُنْ ﴾ لا يقتضي وقوع ذلك الشيء في الحال ؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت ، أو يكون متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها . وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله سبحانه ؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور ، والذي قضت حكمة الله تعالى ألَّا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به . وهذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(يس: 82) . وذلك الشيء المراد معلومٌ قبل إيجاده ، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه ، وبذلك كان مُقدَّرًا مَقضِيًّا ؛ فإن الله سبحانه يقول ، ويكتب ممَّا يعلمه ما شاء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر :« إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » . وفي صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« كان الله ، ولم يكن شيء معه ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض » . وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :« أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة » .
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن- كما قال ابن تيمية- أن المخلوق قبل أن يخلَق ، كان مَعلومًا ، مُخْبَرًا عنه ، مَكتوبًا فيه شيء ، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج ؛ بل هو عدمٌ مَحضٌ ، ونَفْيٌ صِرفٌ . وإذا كان كذلك ، كان الخطاب مُوَجَّهًا إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخُلِق ، ثم كُوِّن ؛ كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( النحل:40 ) . فالذي يُقال له :﴿ كُنْ ﴾ هو الذي يُرادُ . وهو حين يُرادُ قبل أن يُخلَق له ثُبوتٌ وتَميُّزٌ في العلم والتقدير . ولولا ذلك ، لما تميَّز المُرَادُ المَخلوقُ من غيره .
فثبت بذلك أن الله عز وجل ، إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه ، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب بقوله :﴿ كُنْ ﴾ ، ﴿ فَيَكُونُ ﴾ . أي : فيوجد ذلك الشيء المُكَوَّنُ عَقِبَ التكوين ، لا معه في الزمان ، ولا عقبه مباشرة ؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة المضارع مسبوقة بفاء التعقيب . وكونُ الفاء للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول لا معه في الزمان ، خلافًا لما قرَّره علماء التفسير . ويبيِّن لك ذلك أنه لو قيل
كن ، فكان ) ، لكان الأمر والخلق واحدًا ، ولم يتدرج الخلْق ، ولجمد الكون على ما كان عليه منذ انبثاقه إلى الآن ، بلا توسع وتطور ، ولألغي مفهوم الزمن ؛ بل ولَمَا جاء خلق الإنسان متأخرًا في طريق هذا التكوين الذي يمضي بـ﴿ كُنْ ﴾ ، وما يزال ﴿ َيَكُونُ ﴾ ؛ ولهذا أتى سبحانه وتعالى بصيغة الاستقبال مسبوقة بفاء التعقيب ، وكونها للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول لا معه .
أما ﴿ ثُمَّ ﴾ فهي عاطفة ما بعدها على ما قبلها ، وهو قوله :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ، وهي لترتيب المُخْبَر عنه ، لا لترتيب الخبَر ؛ لأن المعنى : ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب ، ثم قال له :﴿ كُنْ ﴾ ، فدل على أن تكوينه بقوله تعالى :﴿ كُنْ ﴾ أرفع رتبة من قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود . والتَّكوين المشار إليه بقوله :﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه على الصفة المقصودة ، بإيجاد الروح فيه ، ونقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية ، وما بين الطورين فترة طويلة من الزمن ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ .
بقي أن تعلم أن ( الفاء ) تفيد التعقيبَ ، والتسبيبَ . فلو قيل
كن ، فكان ) ، لم تدلَّ الفاء إلا على التسبيب ، وأن القول سببٌ للكون . فلما قال الله عز وجل :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر . وهذا لا يعني استعقابه في الحال من غير مهلة ؛ لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال ، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده به ، وتقصره عليه ؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع ؛ لأنه موضوع لما هو كائن لم ينقطع . وهذا يعني- كما تقدم- أن آدم خُلِقَ بشرًا حيًّا ذا نفس ، ثم صيرته القدرة الربانية الخلاقة إنسانًا عاقلاً واعيًا بنفخ الروح فيه بعد تسويته ، بعد ذلك أمر الله سبحانه الملائكة أن يسجدوا له ، ولم يأمرهم قبل ذلك ، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾(ص: 71- 72) .
ولو امتثل الناس قول الله تعالى :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾(العنكبوت: 20) ، لعلموا كيف بدأ الله تعالى الخلقَ . ولو علموا ، ما اختلف منهم اثنان في تفسير هذه الآية الكريمة ، وغيرها من الآيات التي لا تنطق إلا بالحق لمن استنطقها من أولي النهى والبصائر ؛ كقوله تبارك وتعالى :
﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾(السجدة: 7- 9) . وقوله جل وعلا :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾(المؤمنون: 12- 13) .
إلى غير ذلك من الآيات التي نمر عليها ، ونحن عنها غافلون .
سابعًا- ثم عقَّب الله تعالى على ذلك بقوله :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ ، فبين سبحانه أن ما أخبر به عباده في أمر عيسى- عليه السلام- هو الحق الذي لا يحوم حوله باطلٌ . فـ﴿ الْحَقُّ ﴾- على هذا- خبر لمبتدأ محذوف . أي : ذلك النبأ في أمر عيسى ﴿ الْحَقُّ ﴾ ، وحذف لكونه معلومًا . و﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ حال من الحق . وقيل : هو مبتدأ ، استؤنف بعد انقضاء الكلام ، وخبره قوله تعالى :﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ . وهذا كما تقول : الحق من الله ، والباطل من الشيطان . وقيل غير ذلك .
أما الامتراء فهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المَبْنيَّة على الأوهام ، لا على الحقائق ؛ ومنه : المِرَاءُ . يقال : امْتَرَى امْتِرِاءَ ، ومَارَى مِرَاء ؛ كما قال تعالى :﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا ﴾(الكهف: 22) ، وأَصله في اللغة : الجِدال ، وهو مأخوذ من قولهم : مَرَيْتُ الناقة والشاة ، إذا أردت حلبها ؛ فكأن الشاكَّ يجتذب بشكِّه مِراءً كاللبن الذي يُجْتَذَبُ عند الحلْب . ويقال : قد مارى فلان فلانًا ، إذا جادله ؛ كأنه يستخرج غضبه . ومنه قيل : الشكر يمتري المزيد . أي : يجلبه . وقد أكد سبحانه وتعالى أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بتأكيدات ثلاثة :
أولها : تعريف لفظ ﴿ الْحَقُّ ﴾ . أي : ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل .
وثانيها : كونه من عند الله تعالى . وكل شيء من عنده سبحانه فهو صدق ، لا ريب فيه .
وثالثها : النهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق ؛ لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل ، أو امتراء .
وأما النَّهْيُ عن الامتراء في قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ فهو موجَّه في ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال الرازي :« وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكًّا في صحة ما أنزل عليه ؛ وذلك غير جائز . واختلف الناس في الجواب عنه : فمنهم من قال : الخطاب ، وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه في المعنى مع الأمة . والثاني : أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ، والمعنى : فدُمْ على يقينك ، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء » . وقال الألوسي :« ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم ؛ بل ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين :
إحداهما : أنه صلى الله عليه وسلم ، إذا سمع مثل هذا الخطاب ، تحركت منه الأريحية ، فيزداد في الثبات على اليقين نورًا على نور .
والثانية : أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم ، فينزع وينزجر عمَّا يورِث الامتراء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ، مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله ، فما يُظَن بغيره ؟ ففي ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم ولطف بغيره » .
وقيل : بل المقصود من هذا النهي : التعريض بالنصارى الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾( مريم: 34 ) .. والله تعالى أعلم بمراده ، وما ينطوي عليه كلامه من أسرار ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون ، وعلا علوّا كبيرًا !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك