الفرق بين الحزن والبكاء
أولاً- الحُزْنُ في اللغة مصدر : حَزِنَ يحزَن حُزْنًا وحَزَنًا ، فهو حزين ، ويُعدَّى بالهمزة ، فيقال : أحزنته . أي : جعلته حزينًا . وأصل الحُزْن : غِلَظُ الهَمِّ ، مأخوذ من الحَزَن ، بفتحتين ، وهو ما غلُظ من الأرض ، وخشُن في النفس ، لما يحصل فيها من الهَمِّ . والفرق بينهما : أن الحَزَنَ ، بفتحتين ، يعمُّ جميع الأحزان ، وليس كذلك الحُزْنُ . ومن الفروق بينهما أيضَا :
أن الحَزَنُ ، بفتحتين ، نقيضُه : السَّهْلْ ، وهو ما لانَ من الأرض والنفس وانخفض ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾(فاطر: 34) . ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :« اللهم إني أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَن » فعطف الحَزَنَ على الهَمِّ ؛ لأنه أصله ومنشؤه . أما الحُزْنُ ، بضم فسكون ، فقيل : نقيضُه : الفَرَحُ . وقيل : بل نقيضه : السُّرورُ ، لا الفَرَحُ ؛ لأن الفَرَحَ نقيض الغَمِّ ، فإذا تكاثف الغَمُّ وضاق به الصدر ، صار كَرْبًا . ويُحْتَجُّ لذلك بأن الإنسان قد يغتم بضرر يتوهَّمُه من غير أن يكون له حقيقة ، وكذلك يفرح بما لا حقيقة له ؛ كفرح الحالم بالمنى وغيره ، ولا يجوز أن يَحزَن ويُسَرَّ بما لا حقيقة له .
والحُزْنُ ، سواء كان نقيضُه الفرح أو السرور- وإن كان الثاني هو الأصح- فإن أصلَه ومنشأَه : الهَمُّ . وقد سمِّي الحُزْنُ الذي تطول مدته حتى يُذيبَ البدنَ : هَمًّا ؛ فهو من تسمية الشيء بأصله . والهَمُّ ما يقدر المهموم على إزالته ؛ كالإفلاس مثلاً ، بخلاف الغمِّ فإنه ممَّا لا يقدر المغموم على إزالته ؛ كموت المحبوب مثلاً ، ويؤيده قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾(الحج: 22) ، فإن الكافرين لم يكونوا قادرين على إزالة ما بهم من الغَمِّ الذي أصابهم نتيجة العذاب .
والحُزْنُ يكون على ما فات ؛ ولهذا قُدِّمَ عدم الخَوْفُ على عدم الحُزْن في قول الله تعالى :﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾(البقرة: 38) ؛ لأن انتفاء الخَوْف فيما هو آت آكد من انتفاء الحُزْن على ما فات . ومثْلُُ الحُزْن في كونه على ما فات : الأَسَفُ ، وهو المبالغة في الحُزْن والغَضَب ؛ كقوله تعالى :﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ ﴾(آل عمران: 153) . وكذلك الأَسَى ، وهو الحزن الشديد ؛ كقوله تعالى :﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾(الحديد: 23) . أي: لكيلا يلحق الحُزْنُ الشَّديدُ على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التَّسَخُّطُ وعدمُ الرضا بالمقدور . والمراد بالفرح هنا : المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى :﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾(القصص: 76) ؛ فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ؛ ولذلك ختم سبحانه آية الحديد بقوله :﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾(الحديد: 23) . فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يُلحِقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ؛ فمثل هذا هو المنهي عنه . وأما الحزن على ما فات من طاعة الله تعالى ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما :« ليس أحد إلا يحزن ويفرح ؛ ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرًا ، ومن أصاب خيرًا جعله شكرًا » . يعني : هو المحمود . وقال الزمخشري :« فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به » .
والحُزْنُ مُستكِنٌّ في القلب ، فإن ظهر أئره على الوجه سمِّي : كآبةً ، ومن ثَمَّ يقال : عليه كآبة ، ولا يقال عليه حزن ؛ لأن الحُزْنَ لا يرى ، ولكن تظهر دلالاته على الوجه ، وتلك الدلالات تسمى : كآبة . وخلافه في ذلك : البَثُّ الذي لا ينكتم في الصدر . وقد جمع الله تعالى بينهما في قول يعقوب عليه السلام ، فقال :﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ ﴾(يوسف: 86) ، فعطف البَثَّ على الحُزْنِ ، لما بينهما من الفرق في المعنى . فإن بلغ الحُزْنُ من الإنسان مبلغًا بحيث يصرفه عمَّا هو بصدده ويقطعه عنه ، سمِّيَ : جَزَعًا . قال تعالى :﴿ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾(إبراهيم: 21) ، فالجزع أبلغ من الحزن ، فإن الحزن عام ، والجزع هو حزن خاص .
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ﴾(آل عمران: 13) ، ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾(الحجر: 88) فليس بنهي عن تحصيل الحزن ، فالحزن ليس يحصل بالاختيار ؛ ولكن النهي في الحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه ، وإلى معنى ذلك أشار الشاعر بقوله :
منْ سَرَّهُ أنْ لا يَرَى مَا يَسُوءُهُ *** فَلا يَتَّخِذُ شَيئًا يُبالِي لهُ فَقْدا
وأيضًا ، يجب للإنسان أن يتصور ما جبلت عليه الدنيا ، حتى إذا ما بغتته نائبة ، لم يكترث بها ، لمعرفته إياها ، ويجب عليه أن يروِّض نفسه على تحمل صغار النُّوَب ، حتى يتوصل بها إلى تحمل كبارها .
ثانيًا- البُكَاءُ والبُكَا ، بالمدِّ والقصْر ، مصدر : بكى يبكي بُكَاءً ، وبُكًا ، فهو باكٍ ، ويجمع باكٍ على : بَاكُين ، وبُكِيٍّ . قال الله تعالى :﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾(مريم: 58) . وبكى ، يقال في الحُزْن ، وإسالة الدمع معًا ، ويقال في كل واحد منهما منفردًا عن الآخر . وقول الله سبحانه ﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ﴾(التوبة: 82) إشارة إلى الفرح والتَّرَح ، وإن لم يكن مع الضحك قهقهة ، ولا مع البكاء إسالة دمع .
والبُكَاءُ ، بالمد ، يقال ، إذا كان الصوت أغلب ؛ كالرُّغاء والثُّغَاء ، وسائر الأبنية الموضوعة للصوت . أما البُكَا ، بالقصر ، فيقال ، إذا كان الحزن أغلب . وقال ابن قيِّم الجوزيَّة :« وما كان من ذلك دمعًا بلا صوت فهو بُكًا مقصور ، وما كان معه صوت فهو بُكَاءٌ ممدودٌ على بناء الأصوات . قال الشاعر :
بكت عيني وحُقّ لها بُكَاهَا *** وما يغني البُكَاءُ ولا العَويلُ
ومثله قول الآخر :
همْ علَّموني البُكَا ما كنتُ أعرِفه *** يا لَيتَهمْ علَّموني كيفَ أبتسِمُ
وقال كٌثَيِّرُ عَزَّةَ :
وما كُنْتُ أَدْرِى قَبْلَ عَزَّةَ ما البُكَا ... ولا مُوجِعاتِ الحُزْنِ حَتَّى تَوَلَّتِ
ومن المعلوم أن البُكَاءَ أحيانًا لا يكون دليلاً على صدق حال الباكي ، أو مقاله ، بدليل قول الله سبحانه في إخوة يوسف عليه السلام :﴿ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ﴾(يوسف: 16) .
وما كان من البُكَاءِ مُستدْعىً مُتكلفًا ، فهو التَّبَاكِي ، وهو نوعان : محمود ، ومذموم . فالمحمود : أن يُستجلَب لرقة القلب ولخشية الله ، لا للرِّياء والسُّمْعة . والمذموم : أن يُجتلَب لأجل الخُلُق . وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رآه يبكي هو وأبو بكر ، في شأن أسارى بدر : أخبرني ، ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم . وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله ، فإن لم تبكوا فتباكوا » . ورُوِيَ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« اقرؤوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، ليس منا من لم يتغن بالقرآن » .
ومن الاستعارات اللطيفة قوله تعالى :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ﴾(الدخان: 29) ، تحقيرًا لأمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء . ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، والنجوم ، والليل والنهار .
قال الكُمَيْتُ :
لَوْ بَكَتْ هذهِ السَّمَاءُ على قَوْ *** مٍ كِرَامٍ بَكَتْ علَيْنَا السَّمَاءُ
وقال جرير :
فالشَّمسُ طالعةٌ ليستْ بكَاسِفةٍ *** تَبْكِي عليكَ نجومُ الليلِ والقَمَرَا
ثالثًا- والبُكَاءُ أنواع ، حصرها ابن قيِّم الجوزيَّة في كتابه ( زاد المعاد ) في عشرة أنواع :
أحدها : بكاء الرحمة والرقة . والثاني : بكاء الخوف والخشية . والثالث : بكاء المحبة والشوق . والرابع : بكاء الفرح والسرور . والخامس : بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله . والسادس : بكاء الحزن . والسابع : بكاء الخور والضعف . والثامن : بكاء النفاق ، وهو أن تدمع العين ، والقلب قاسٍ . والتاسع : البكاء المستعار والمستأجر عليه ؛ كبكاء النائحة بالأجرة ، فإنها- كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه-« تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها » . والعاشر : بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورَد عليهم ، فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شيء يبكون ؛ ولكن يراهم يبكون ، فيبكي .
وفي الفرق بين ( بكاء الحزن ، وبكاء الخوف ) ، وبين ( بكاء الفرح والسرور ، وبكاء الحزن ) قال ابن القيِّم :« والفرق بينه ، وبين بكاء الخوف : أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب ، وبكاء الخوف يكون لما يُتَوَقَّع في المستقبل من ذلك .. والفرق بين بكاء السرور والفرح ، وبكاء الحزن : أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين ؛ ولهذا يقال لما يُفرَح به : هو قُرَّةُ عَيْنٍ ، وأقرَّ الله به عينه . ولما يُحزِن : هو سَخينةُ العين ، وأسخن الله عينه به » .
وفي بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قيِّم الجوزيَّة :« وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه ، لم يكن بشهيق ورفع صوت ، كما لم يكن ضحكه بقهقهة ؛ ولكن كانت تدمع عيناه حتى تُهْمَلا ، ويُسْمَع لصدره أزيز . وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها ، وتارة من خشية الله ، وتارة عند سماع القرآن ، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحِب للخوف والخشية . ولما مات ابنه إبراهيم دَمُعَت عيناه ، وبكى رحمة له ، وقال : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون . وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ، وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة ( النساء ) ، وانتهى فيها إلى قوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾(النساء: 41) . وبكى لما مات عثمان بن مظعون ، وبكى لما كَسَفَت الشمس وصلى صلاة الكسوف ، وجعل يبكي في صلاته ، وجعل ينفخ ويقول : ربِّ ! ألم تعدني ألا تعذبهم ، وأنا فيهم ، وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك . وكان يبكي أحيانًا في صلاة الليل » .
وروى الشيخان عن ابن مسعود- رضي الله عنه – أنه قال :« قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقْرأْ عليَّ القرآنَ . قلت : يا رسولَ الله ! أقرأ عليك ، وعليك أُنْزِلَ ؟ قال : إِني أحبُّ أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء ، حتى جئت إلى هذه الآية :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾(النساء: 41) ، قال حَسْبُكَ الآن ، فالتفتُّ إليه ، فإذا عيناه تَذْرِفانِ » .
قال ابن بطال :« وإنما بكى صلى الله عليه وسلم عند هذا ؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة ، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه ، والإيمان به ، وسؤاله الشفاعة لهم ؛ ليريحهم من طول الموقف وأهواله ، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن » .
وروى أحمد في مسنده عن عبد الله بن الشِّخِّير ، قال :« أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي ، ولجوْفه أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَل من البكاءِ » .
وعن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة رضي الله عنها :« أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فسكتت ، ثم قالت : لما كانت ليلة من الليالي قال : يا عائشة ! ذريني ، أتعبد الليلة لربي . قلت : والله ، إني أحب قربك ، وأحب ما يسرك . قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي . قالت : فلم يزل يبكي ، حتى بلَّ حِجره . قالت : وكان جالسًا ، فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بلَّ لحيته . قالت : ثم بكى حتى بلَّ الأرض ، فجاء بلالٌ يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ! تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدًا شكورا ؟ لقد أنزلت علي الليلة آية ، وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها ! ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. ﴾ الآية » . رواه ابن حبان وغيره ، وصححه الشيخ الألباني .
رابعًا- وقد يعبر عن البكاء بالحزن ؛ لأنه أصله ومنشؤه ؛ ومن ذلك ما حكاه الله عز وجل من قول يعقوب عليه السلام :﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾(يوسف: 84) ، فعلَّل ابيضاض العينين بالحُزْن ؛ وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلَّلَ بالأصل الذي نشأ منه البكاءُ وهو الحُزْنُ ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ تََوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ﴾(التوبة: 92) .
فما حدث ليعقوب عليه السلام من ابيضاض عينيه ، فقد كان بسبب إفراطه في البكاء المتتالي نتيجة حزنه الشديد على يوسف ، والذي عبَّر عنه في البداية بقوله :﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ ، ثم عقَّب تعالى على ذلك بقوله :﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ . أي : شديد الكظم لحزنه ، فلم يَشْكُ ما به إلى أحد ؛ وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، وكان يرسل العبرات المتتالية من عينيه دون انقطاع حتى ابيضت عيناه ، وحصل له العمى التام . وقد روي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه ، وأن وَجْدَه عليه وَجْدُ سبعين ثكلى ، وأجرَه أجرُ مائة شهيد .
فابيضاض عينيه- عليه السلام- كان بسبب بكائه الدائم ، نتيجة حزنه الشديد . وقد يكون في بكائه الدائم الذي أفقده بصره إنقاذٌ لحياته من الهلاك ؛ ولهذا كان أولاده يقولون له :﴿ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ ، فكان جوابه لهم :﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ . والبث أشدُّ الحزن ، سمِّيَ بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطيق الإنسان حمله ، فيبثه . والبثُّ هو النشر مع التفريق .
وفي المستدرك على الصحيحين ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :« كان ليعقوب أخ مؤاخيًا ، فقال له : ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك ؟ فقال : الذي أذهب بصري ( البُكاءُ ) على يوسف ، وقوس ظهري ( الحزن ) على بنيامين ... » .. الحديث .
وذكر الفخر الرازي في تأويل الآية السابقة وجهين :
الوجه الأول : أنه لما قال :﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ ، غلبه البكاء . وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين ، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء . وقوله :﴿ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن ﴾ كناية عن غلبة البكاء . والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء ، لا في حصول العمى . فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء ، كان هذا التعليل حسنًا . ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل . فكان ما ذكرناه أولى . وهذا التفسير مع الدليل رواه الواحدي في « البسيط » ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .
والوجه الثاني : أن المراد هو العمى ، والقائلون بهذا التأويل قالوا : الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم ، وهو يوجب العمى ، فالحزن كان سببًا للعمى بهذه الواسطة ، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى ؛ لأنه يورث كدورة في سوداء العين . ومنهم من قال : ما عمي ؛ لكنه صار بحيث يدرك إدراكًا ضعيفًا . قيل : ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون عامًا .
لاحظ قوله في الوجه الأول
تأثير الحزن في غلبة البكاء ، لا في حصول العمى ) ، ثم قوله في الوجه الثاني
الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم ، وهو يوجب العمى ، فالحزن كان سببًا للعمى بهذه الواسطة ) .
وابيضاض العينين من الحزن هو ما يعرف اليوم باسم الماء الأبيض ، أو ( الكاتاراكت ) ، وهو عبارة عن عتامة تحدث لعدسة العين ، تمنع دخول الضوء جزئيًّا أو كليًّا ، حسب درجة العتامة , وقد تحدث بسبب الحزن الشديد المصحوب بالبكاء ، أو لكبر السن .
والسؤال هنا : لماذا كان الحزن سببًا للعمى بوساطة البكاء ؟ يجيب عن ذلك العالم المصري الدكتور عبد الباسط محمد سيد ، الباحث بالمركز القومي للبحوث التابع لوزارة البحث العلمي والتكنولوجيا بجمهورية مصر العربية ، فيقول :« هناك علاقة بين الحزن والإصابة بالمياه البيضاء ، حيث أن الحزن يسبب زيادة هرمون ( الأدرينالين ) ، وهو يعتبر مضاد لهرمون ( الأنسولين ) ، وبالتالي فإن الحزن الشديد ، أو الفرح الشديد يسبب زيادة مستمرة في هرمون ( الأدرينالين ) الذي يسبب بدوره زيادة ( سكر الدم ) , وهو أحد مسببات العتامة .. هذا بالإضافة إلى تزامن الحزن مع البكاء ».
نخلص من ذلك إلى القول بأن ( الحزن الشديد ) كان سببًا في ابيضاض العينين ، وأن ( البكاء الدائم ) نتيجة الحزن كان سببًا في حصول العمى التام . ولو كان البكاء في هذه الحالة علاجًا ، لكان سببًا في إزالة ابيضاض العينين ، ولما كان لقميص يوسف عليه السلام دور في رد بصر أبيه إليه ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾(يوسف: 93) . ولعلنا ندرك الآن سِرَّ التعبير البياني هنا بلفظ ( الحزن ) بدلاً من لفظ ( البكاء ) .
وشبيه بما حدث ليعقوب- عليه السلام- ما حدث للخنساء في جاهليتها ، حين فقدت بصرها من كثرة بكائها حزنًا على أخيها صخر ، وكانت تقول مخاطبة عينيها :
أعيني جودا، ولا تجمُـدا *** ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجري الجميل *** ألا تبكيان الفتى السـيدا
وكانت تعلل نفسها بكثرة الباكين من حولها ، وتقول :
فلولا كثرة الباكين حــولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكـن *** أعزي النفس عنه بالتأسي
هذا ، وقد تمكن العالم المصري الدكتور عبد الباسط محمد سيد من تصنيع قطرة عيون لمعالجة المياه البيضاء ، استلهمها من قوله الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام :﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾(يوسف: 93) ، حيث تشير الآية إلى أن عرق الإنسان فيه من المركبات الكيميائية ما يمكن من شفاء عتامة عدسة العين ( المياه البيضاء ) , وهو ما توصل إليه الأستاذ الدكتور عبد الباسط محمد سيد بعد أن قام بنقع عدد من العدسات المعتمة ( التي تم استخراجها من عيون عدد من المرضى بعمليات جراحية ) في عرق الإنسان ، فوجد أنها تحدث حالة من الشفافية التدريجية لتلك العدسات , ووجد أن العامل المؤثر في ذلك هو أحد المركبات الكيميائية لعرق الإنسان , واسمه العلمي ( الجواندين ) , وأمكن تحضير هذا المركب مختبريا , وإنتاج قطرة منه حصل بها على براءة اختراع أوروبية ، وأخري أمريكية في العامين ( 1991 ) م ، و( 1993 ) م .
خامسًا- وبعد فالبُكَاءُ حالة يتميز بها البشر دون سائر المخلوقات ، وهو فعل غريزي لا يملك الإنسان دفعه غالبًا ، وهو من فعل الرب جل وعلا ، بدليل قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾(النجم: 43) . جاء في تفسير القرطبي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت :« مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه ، وهم يضحكون ، فقال : لو تعلمون ما أعلم ، لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيرًا ، فنزل عليه جبريل ، فقال : يا محمد ! إن الله يقول لك :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾(النجم: 43) . فرجع إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل ، فقال : إِيتِ هؤلاء ، فقل لهم : إن الله تعالى يقول :﴿ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ . أي : قضى أسباب الضحك ، والبكاء .. وقال عطاء ابن أبي مسلم : يعني : أفرحَ وأحزنَ ؛ لان الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء » . فالبكاء على هذا مباح ؛ ولكن بشرط ألا يصحبه ما يدلُّ على التسخُّط من قضاء الله وقدره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :« إنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ بدمعِ العينِ ، ولا بحزنِ القلبِ ؛ ولكن يُعَذِّبُ بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يَرْحَمُ » .
ويمثل قول الله عز وجل :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾(النجم: 43) قمة الإعجاز . ووجه الإعجاز فيه أنه أسند الإضحاك والإبكاء إلى الله عز وجل ، وقد جاء ذلك في مقدمة الأفعال والصفات التي لا تنبغي إلا له سبحانه ، وليس للإنسان فيها حول ولا طول :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾(النجم: 43) .
والأدلة من القرآن والسنة والعلم على ذلك كثيرة ، نذكر منها قوله تعالى :
﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾(مريم: 58) .
﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾(الإسراء: 109) .
فالبكاء في هاتين الآيتين هو ( بكاء خوف وخشية ) ، وجه الإعجاز فيهما : أن البكاء من خشية الله عند تلاوة القرآن يمثل طريقة رائعة لعلاج النفس الإنسانية من أمراضها ؛ لأنه يزيد المؤمن خشوعًا وخوفًا من الله ، ويُنسيه همومه وأحزانه ؛ لأن من يتأثر بكلام الله ويتصور أهوال القيامة ويتذكر عظمة الخالق تبارك وتعالى ، تتضاءل أمامه المشاكل والهموم مهما كان حجمها أو نوعها ، وبالتالي ينسى ما هو فيه من هم وغم وكرب ، ويزول عنه ما هو فيه من توتر نفسي . وهذه أول خطوة على طريق العلاج الناجع لأي مشكلة من مشاكل النفس الإنسانية .
والحقيقة العلمية المرتبطة ببكاء الخشية : إن ما ذكر من وجه الإعجاز في هاتين الآيتين أكده علماء النفس والبرمجة اللغوية العصبية ، وأثبتوا أثره الفعال في حل المشاكل والمصاعب والتخلص من هموم النفس وما يصحب ذلك من أمراض نفسية .
ولذلك فإن الله تعالى ذكر البكاء في أكثر من موضع في كتابه المجيد ، وجعله وسيلة للتقرب منه سبحانه ، ومؤشرًا على صدق المؤمن في خشيته من خالقه جل جلاله . يقول تعالى :﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾(النجم: 59- 62) . ففي هذا النص القرآني حضٌّ على البكاء من خشية الله عز وجل ، والابتعاد عن اللهو ، وأمر بالتعبد لله جل وعلا بالسجود وتلاوة القرآن . ولعلنا الآن نفهم السر في بكاء النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة ، وفي مقدمتها عند سماعه القرآن الكريم ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي تقدم ذكره :« اقرؤوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، ليس منا من لم يتغن بالقرآن » .
نسأله سبحانه أن يجعلنا من عباده الذين ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ ، وأن يجعل بكاءنا شفاء لما في الأنفس والصدور ، ووسيلة للقرب منه سبحانه ، والحمد لله رب العالمين .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك