أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ - خَاوِيَةٍ
قال الله عز وجل في سورة القمر :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾(القمر: 18- 20) . وقال سبحانه وتعالى في سورة الحاقة :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾(الحاقة: 6- 7) ، فأتى بوصف ( أعجاز النخل ) في آية القمر مذكرًا هكذا
منقعر ) ، وأتى به في آية الحاقة مؤنَّثًا هكذا
خاوية ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا أتى هذا الوصف في آية القمر مذكَّرًا ، وأتى في آية الحاقة مؤنَّثًا ؟ وما سر البيان في ذلك ؟
أولاً- وقبل الإجابة عن ذلك أود أن أشير إلى أن الدكتور فاضل السامرائي قد سئل في برنامج ( لمسات بيانية ) السؤال الآتي :
( ما هي الآية التي استعصت عليك ، ووقفت عليها طويلاً ، لاستكشاف اللمسات البيانية فيها ؟ ) .
فأجاب بالآتي :
« أكثر من آية في الحقيقة .. آية ذكرتها استغرقت حوالي ستة أشهر ، وآية استغرقت أكثر من هذا بكثير . ذكرت مرة آية
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) استوقفتني أكثر من سنة . وآية أخرى استغرقت ستة أشهر :
( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (20) ( القمر ) .
و( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (7) ( الحاقة ) .
لماذا واحدة بالتذكير ، والثانية بالتأنيث ، مع أن كلاهما وصف للنخل ؟
( أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) يصف النخل .
و( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) يصف النخل ،
فلماذا جاءت مرة بالتأنيث ، ومرة بالتذكير ؟ استغرقتني هذه ستة أشهر .
المفسرين حسب ما اطلعت عليه يقولون الآيات لأن الآية في سورة الحاقة ( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) ما قبلها وما بعدها هي هكذا . والثانية في سورة القمر ( قعر – منقعر ) تسير على الفاصلة القرآنية .
لكني لم أكن مقتنعًا بهذا التخريج ، فبدأت أفكر لماذا هذا الشيء ؟ لأني أعتقد أن خواتيم الآيات ليست فقط مناسبة لما قبلها وما بعدها . وإنما هنالك قطعاً علاقة بالمعنى . ثم ربنا سبحانه وتعالى بعد التأمل والتدبر . نحن لدينا قاعدة كنت غافلاً عنها :
( أن التأنيث يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) .
ربنا قال
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ) (30) (يوسف) . قال
قال ) . لكن قال
قَالَتِ الْأَعْرَابُ ) لأن النسوة قليل ، والأعراب كثير ، هذا في القرآن كثير . فالتأنيث يفيد الكثرة .
المقدم : إذن ( أعجاز نخل خاوية ) : كثيرة ؟
د. فاضل : وفيها مبالغة أيضاً مثل ( علاَّم وعلاَّمة ) تفيد المبالغة . لو نقرأ الآيتين تتضح المسألة .
قال في القمر
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) (19) ، ( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (20) يوم نحس ، يوم واحد .
بينما في الحاقة قال
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (6) . زاد العتو على الصرصر . هناك قال فقط
رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) . أما هنا قال
بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) . ثم قال
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) (7) . أي : التدمير سيكون أكثر ؟
المقدم : في الحاقة :
د. فاضل : فقال
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) . والخاوية أكثر من المنقعر ، باعتبار كل منقعر مخلوع ، خاوية أكثر من المنقعر .. هذا على وجه السرعة » .
ثانيًا- هذا ما ورد في اللمسة البيانية رقم (206 ) ، منقولاً بنصه دون تغيير عن الدكتور فاضل السامرائي في الإجابة عمَّا سئل ؛ وذلك بعد تفكير طويل استغرق منه حوالي ستة أشهر كما يقول فضيلته .. وليس غريبًا أن يصدر هذا القول أو مثله عن رجل عالم كالدكتور السامرائي ، فهو العالم اللغوي الأول الذي لا يشق له غبار في هذا العصر باعتراف كثير من قرائه ومستمعيه ، حتى أقسم بعضهم بالله على أنه حين يسمع السامرائي يحسبه من الراسخين في العلم .. ولم لا ، وجواب السامرائي هذا أقوى دليل على ذلك ، بغض النظر عن أسلوبه الذي صاغ به هذا الجواب .
أما ما ذكره عن المفسرين من أن التذكير والتأنيث في الآيتين يسير على الفاصلة القرآنية- كما قال- فهو جواب أكثرهم ، وهو اختيار أبي حيان في البحر المحيط ، فقد قال عند تفسير قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ ما نصُّه :« والنخل اسم جنس يذكَّر ويؤنَّث ؛ وإنما ذكِّر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنِّث في قوله :﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضًا » .
وحكى الرازي من قبله هذا القول عن المفسرين ، وعقَّب عليه بقوله :« وهو جواب حسن ؛ فإن الكلام ، كما يزين بحسن المعنى ، يزين بحسن اللفظ » . ثم ذكر جوابًا آخر ، ذكره من قبله الطبري ، والقرطبي ، والزمخشري ، والشوكاني ، والبيضاوي ، والألوسي ، وغيرهم ، وهو :
( أن لفظ النخل اسم جنس يذكَّر ويؤنَّث ، فإذا وصف جاز في صفته التذكير حملاً على اللفظ ، والتأنيث حملاً على المعنى ) .
وحكى أكثر من واحد منهم عن أبي بكر ابن الأنباري أنه قال :« سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة من جملتها ، قيل له : ما الفرق بين قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾(الأنبياء: 81) ، وقوله :﴿ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾(يونس: 22) ، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾( الحاقة: 7 ) ، وقوله :﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾(القمر: 19) ؟ فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرًا ، أو إلى المعنى تأنيثًا » .
والغريب أن الدكتور السامرائي قد غفل عن ذكر هذا الجواب مع شهرته ، واقتصر على ذكر الجواب الأول ، ثم قال معقِّبًا عليه :« لكني لم أكن مقتنعًا بهذا التخريج ، فبدأت أفكر لماذا هذا الشيء ؟ لأني أعتقد أن خواتيم الآيات ليست فقط مناسبة لما قبلها وما بعدها ؛ وإنما هنالك قطعًا علاقة بالمعنى » . ثم هداه تفكيره الذي استغرق ستة أشهر إلى ما ذكر من جواب بعد أن تذكر قاعدة لديه كان غافلاً عنها ، وهي :
( أن التأنيث يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) .
والسؤال الذي ينبغي أن يطرح على الدكتور السامرائي :
هل يجوز أن نقيس
أعجاز نخل منقعر ) ، و( أعجاز نخل خاوية ) على : ( قال نسوة ) ، و( قالت الأعراب ) ؟
وإذا كان هذا القياس جائزًا ، فهل يدل التذكير في ( قال نسوة ) على القلة ، والتأنيث في ( قالت الأعراب ) على الكثرة والمبالغة ؟
وإن سلمنا جدلاً بأن التذكير في نحو قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) يدل على قلة ( البينات ) ، وأن التأنيث في قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(البقرة: 213) يدل على كثرة ( البينات ) ، بناء على القاعدة التي ذكرها ، فماذا يقول فضيلته في قول الله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾(ص: 73) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾(آل عمران: 42) ، حيث ذُكِّر فعل السجود مع الملائكة في آية ( ص ) وهم كثرة ، بدليل قوله تعالى :﴿ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ ، وأُنِّثَ فعل القول معهم في آية ( آل عمران ) وهم قلَّة ، بدليل أن الملائكة كلهم لم يخاطبوا مريم . والمفسرون يقولون : المراد بالملائكة ههنا : جبريل وحده ؟
وماذا يقول فضيلته في تذكير الفعل مع ( الصيحة ) في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة ﴾(هود: 67) ، وتأنيثه معها في قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة ﴾(المؤمنون: 41) ، وهي مفردة في الآيتين ؟ وماذا يقول فضيلته أيضًا في تذكير الفعل مع ( موعظة ) في قوله تعالى :﴿ مَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(البقرة: 275) ، وتأنيثه معها في قوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(يونس: 57) ؟ هل يدل الأول على القلة ، والثاني على الكثرة ، و( موعظة ) مفردة مع الفعل في الآيتين ؟ وإن كان تذكير ( موعظة ) في آية البقرة يدل على القلَّة في قراءة الجمهور ، فكيف نوفق بينها ، وبين قراءة أبيًّ والحسن :﴿ فَمَنْ جَاءتْهُ مَّوْعِظَةٌ ﴾(البقرة: 275) ؟
ولو كان التأنيث يدل على الكثرة ، كما يزعم السامرائي ، لدل عليها تأنيث الفعل ( جَاءتْ ) مع ( الرُّسُلِ ) في قول الله عز وجل :﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى ﴾(هود: 69) . قيل : الرسل هنا هم الملائكة ، روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكًا . وقال السدي : أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة . وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل . وقال الضحاك : تسعة . وقال محمد بن كعب : ثمانية . وحكى الماوردي أنهم أربعة ، ولم يسمهم . وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم : جبريل ، وإسرافيل ، وميكائيل ، ورفائيل عليهم السلام . وفي رواية عن ابن عباس ، وابن جبير : أنهم ثلاثة الأولون فقط . وقال مقاتل : جبرائيل ، وميكائيل ، وملك الموت عليهم السلام . واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة ؛ لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع .
وواضح من هذه الأقوال كلها أن ( الرُّسُلَ ) الذين جاؤوا إبراهيم- عليه وعليهم السلام- هم قلَّة ، خلافًا لما في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ﴾(يوسف: 110) ، حيث ذُكِّر الفعل مع ( الرُّسُلِ ) ، وهم كثرة .
والغريب أن الدكتور السامرائي حين سئل في إحدى لمساته البيانية عن سبب تذكير الفعل مرة وتأنيثه مرة ، مع لفظ ( الملائكة ) ، في نحو قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾(ص: 73) ، وقوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ .. ﴾(آل عمران: 39) ، لم ينس القاعدة التي كان قد نسيها ، حين كان يبحث عن سبب تذكير لفظ ( منقعر ) ، وتأنيث لفظ ( خاوية ) مع ( أعجاز النخل ) ، فقال : « الحكم النحوي : يمكن أن يؤنّث الفعل أو يُذكّر ، إذا كان الجمع جمع تكسير ؛ كما في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، و﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ ، فيجوز التذكير والتأنيث من حيث الحكم النحوي » .
هذه القاعدة التي يردد ذكرها كثيرًا ، لم يطبقها على تذكير الفعل وتأنيثه مع ( الملائكة ) ؛ لأنه يعلم أنه لا يمكن تطبيقها ، وقد هداه تفكيره إلى قواعد أخرى أعجب بكثير من القاعدة الأولى ، وقد سمّاها خطوطًا تعبيرية هي التي تحدد تأنيث ، وتذكير الفعل مع ( الملائكة ) ، وهذه الخطوط التعبيرية تجدها مع الرد عليها في مقال ( تذكير لفظ الفعل وتأنيثه مع لفظ الملائكة ) .
أما لفظ ( نِسْوَة ) في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾(يوسف: 30) ، ولفظ ( أَعْرَاب ) في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) فتجد الرد عليهما في مقال ( وقال نسوة في المدينة ) .
وأما ( أعجاز ) فهو من جموع القلة ، مفرده : عجز ، ومثله : عنق وأعناق ، وضلع وأضلاع ، وكبد وأكباد ، وقفل وأقفال ، وحمل وأحمال . وأما لفظ ( نخل ) فهو اسم جمع يدل على القلة أيضًا بخلاف ( نخيل ) ، ومفرده : نخلة ، يذكَّر ويؤَّنث ، وقد اجتمع اللفظان معًا في هاتين الآيتين ، فجاز في وصفهما التذكير نظرًا للفظ ، والتأنيث نظرًا للمعنى ، والتذكير لغة بني تميم ونَجْد ، والتأنيث لغة أهل الحجاز . وهذا ما غاب عن علم الدكتور السامرائي ، رغم كونه دكتورًا في النحو ، وله فيه المؤلفات العظام .
ثالثًا- إذا كان السامرائي قد صحا من غفوته بعد ستة أشهر ، وتذكر قاعدته المزعومة ، فقد غفل دون أن يصحو عن أن الآيات في سورة القمر ، وسورة الحاقة تتحدث عن إهلاك قوم عاد . وقوم عاد هم همُ من حيث العدد ، سواء كانوا كثرة ، أم قلة . ولم يلحظ الفرق بين تشبيههم بأعجاز النخل المنقعر تارة ، وتشبيههم بأعجاز النخل الخاوية تارة أخرى ، وظن أنه لا فرق بين التشبيهين إلا من حيث أن الوصف في الأول مذكر يدل على القلة ، وأن الوصف في الثاني مؤنث يدل على الكثرة والمبالغة .
وليس الأمر كما ظن وتوهم ، وأوهم مستمعيه وسائليه . والفرق بين التشبيهين أوضح وأيسر بكثير من أن يُتكلَّف في الجواب عنه ذلك التكلف ، وتُنسَجَ حوله تلك الأسطورة . ولو أنه فكر فعلاً وأحسن التدبُّر ساعة من الزمن لا ستة أشهر ، لأدرك أن الغرض من التشبيه في الآيتين ليس هو الإخبار عن كثرة أعجاز النخل ، أو قلتها ؛ وإنما الغرض منهما هو الإخبار عن الكيفية التي تم فيها إهلاك قوم عاد .. وأن إهلاكهم تم على مرحلتين : تحدثت آيات القمر عن المرحلة الأولى منهما ، وتحدثت آيات الحاقة عن المرحلة الثانية التي تلت المرحلة الأولى .. ولبيان ذلك نقول :
1- ذكر الله تعالى ( أعجاز النخل ) في القرآن في هذين الموضعين ، واختار لكل موضع من الوصف ما يناسب اللفظ والمعنى معًا ، مع مراعاة الفاصلة القرآنية السابقة له واللاحقة ، فقال سبحانه :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ ، فأتى بلفظ ( منقعر ) مذكَّرًا نظرًا لتذكير لفظ ( أعجاز نخل ) ؛ لأن أعجاز جمع تكسير لمذكر ، مفرده ( عجز ) ، وقال مرة أخرى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ ، فأتى بلفظ ( خاوية ) مؤنَّثًا نظرًا لتأنيث لفظ ( أعجاز نخل ) ؛ لأن جمع التكسير مؤنث في المعنى وتأنيثه غير حقيقي . ولو جاء النظم معكوسًا هكذا
أعجاز نخل منقعرة ) ، و( أعجاز نخل خاوٍ ) ، لكان ذلك فصيحًا ؛ ولكن لغة القرآن أفصح ، لما فيها من ملائمة اللفظ للمعنى ، مع مراعاة الفاصلة القرآنية ، وهذا هو قمة الإعجاز .
2- ( النزع ) في اللغة هو القلع . ومعنى قوله تعالى :﴿ تَنْزِعُ النَّاسَ ﴾ . أي : تقلعهم من جذورهم . روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر ، وتمسك بعضهم ببعض ، فقلعتهم الريح ، فأصبحوا بعد القلع ( النزع ) ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ . و( الأعجاز ) هي الأصول بلا فروع ، قد انقلعت من مغارسها . و( المنقعر ) هو المنقلع عن مغارسه ، المنقطع من أصله ، الساقط على الأرض . قال الراغب الأصفهاني : وقعر الشيء : نهاية أسفله ، وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ . أي : ذاهب في قعر الأرض . وقال بعضهم : انقعرت الشجرة : انقلعت من قعرها . وقيل : معنى انقعرت : ذهبت في قعر الأرض . وإنما أراد تعالى : أن هؤلاء اجتثوا من جذورهم ؛ كما اجتث النخل الذاهب في قعر الأرض من جذوره ، فلم يبق لهم رسم ، ولا أثر . وقيل : شبههم في طول قاماتهم حين نزعتهم الريح ، وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليس لها رؤوس ؛ وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولاً ، ثم كتّبتهم على وجوههم . ويزيد هذا التشبيه حسنًا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال .
3- أما ( الخاوية ) فهي الخالية بعد اقتلاعها وسقوطها على الأرض ، وهي من الخواء . وأصل الخواء : الخلاء ، إلا أن بينهما فرقًا ، وهو : أن ( الخواء ) يكون عن كارثة ، بخلاف ( الخلاء ) . فإذا رحل القوم عن ديارهم لأمر مَّا فهي خلاء ، يقال : خلت الديار خلاء فهي خالية . وقوله تعالى :﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾(آل عمران: 137) . أي : مضت ، وقوله تعالى :﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾(الحاقة: 24) قيل : الأيام الخالية : الماضية ، وقيل : الخالية من اللذائذ . وإذا رحل القوم عن ديارهم لمصيبة ألمَّت بهم فهي خواء . يقال : خوت الديار خواء فهي خاوية . قال تعالى :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾(النمل: 52) . أي : خالية من أهلها بعد أن دمروا بسبب ظلمهم . وقيل : هذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به ، وهي مرحلة تأتي بعد الانقعار المتسبب عن النزع ؛ فكأن الريح تنزع الواحد منهم ، وتقعره ، فينقعر ، فيقع ، فيكون صريعًا ، فيخلو الموضع عنه ، فيخوى . فالخواء لا يكون إلا بعد النزع والقعر ، وهو أقوى وأشد ؛ كما يفيده الفعل ( ينزع ) الذي يدل على استمرار النزع ، والوصف ( منقعر ) الذي يدل على قلع الشيء من جذوره .
قال تعالى :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾(النمل: 52) . أي : خالية من أهلها بعد أن دمروا بسبب ظلمهم . وقال تعالى في إهلاك قوم عاد :﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾(الحاقة: 7) . أي : خالية الأجواف ، لا شيء فيها . والتخوية : ترك ما بين الشيئين خاليًا . ونظير الآية قوله تعالى :﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾(البقرة: 259) . أي : متهدمة ساقطة على عروشها بعد خواء أهلها منها .
4- وهكذا نرى أن قوله تعالى :﴿ فََتََرََى الْقَوْمَ فِِيهََا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ إشارة إلى حالة تلي حالة الانقعار الشديد المتسبب عن النزع بقوة . وهذا- كما قال الرازي- يفيد أن حكاية إهلاك قوم عاد في آية القمر :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ مختصرة ، حيث لم يشر إلى صرعهم وخواء منازلهم عنهم بالكلية ؛ فإن حال الانقعار لا يحصل عنه الخواء التام ؛ إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه .
ومن ثمَّ يتبيَّن لنا أن الغرض من تشبيههم بأعجاز النخل المنقعر هو الإخبار عن اقتلاعهم من جذورهم الضاربة في الأرض بقوة وطرحهم على الأرض أمواتًا ، إذ كانوا قومًا جبارين ، ذوي جثث عظام طوال . وأن الغرض من تشبيههم بأعجاز النخل الخاوية هو الإخبار عن إهلاكهم بالكلية وخواء منازلهم منهم ، وهذه مرحلة لا تتم إلا بعد التمهيد لها بما حدث في المرحلة الأولى ؛ إذ كيف يتم إهلاك قوم جذورهم ضاربة في الأرض كقوم عاد دون اقتلاع تلك الجذور الذاهبة في قعر الأرض ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾(الفجر: 6-
، وقوله تعالى : ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾(فصلت : 16) . قال ابن شجرة :« كانت الريحُ تدخل في أفواههم ، فتُخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية » . وقال يحيى بن سلام :« إنما قال : الخاوية ؛ لأن أبدانهم خوت من أرواحهم ؛ مثل النخل الخاوية » .
ومن هنا كان وصف ( أعجاز النخل ) التي شبهوا بها في آية القمر بـ( منقعر ) حملاً على لفظ ( أعجاز نخل ) أدلَّ على المعنى المراد من ( منقعرة ) بالتأنيث ، وكان وصفها في آية الحاقة بـ( خاوية ) حملاً على معنى ( أعجاز نخل ) أدلَّ على المعنى المراد من ( خاوٍ ) بالتذكير . وأما القول بأن تذكير ( منقعر ) يدل على القلة ، وأن تأنيث ( خاوية ) يدل على الكثرة ، وبالتالي فإن ( أعجاز النخل الخاوية ) أكثر من ( أعجاز النخل المنقعر ) ، فهو قول من لا يعرف جوهر الكلام ، ولا يدرك أسرار البيان ؛ لأن ( أعجاز النخل ) في الموضعين هي هيَ من حيث العدد ، وليست العبرة في الكم ، وإنما العبرة قي الكيف !
رابعًا- بقي أن نذكر أن المقارنة التي أجراها السامرائي بين آيات القمر ، وآيات فصلت ، وهي قوله :
« لو نقرأ الآيتين تتضح المسألة . قال في القمر
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) (19) ، ( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (20) يوم نحس ، يوم واحد . بينما في الحاقة قال :
( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (6) ، زاد العتو على الصرصر . هناك قال فقط :
( رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) . أما هنا قال :
( بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) . ثم قال
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) (7) . أي : التدمير سيكون أكثر ؟ » .
أقول : هذه المقارنة بين الآيات تدل على قصور في الفهم ، وجهل بقصة قوم عاد التي فصل الله عز وجل القول فيها في سورة فصلت .. لقد ذكر السامرائي أن الريح في آية الحاقة وصفت بالصرصر والعتو ( بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) ، ونسي فضيلته أن هذه الريح في آية القمر وصفت بالصرصر ، وأنها في يوم نحس مستمر ( رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) ، وهو يوم شؤم عليهم ، مستمرٌّ ، ينزع الناس ، نساء ورجالاً ، كبارًا وصغارًا ، لم يغادر منهم أحدًا حتى أهلكهم جميعًا .
ثم زعم فضيلته أن التدمير في آية الحاقة كان أكثر ؛ لأنه فهم أن المراد من يوم النحس المستمر هو يوم واحد من أيام الأسبوع . والصواب أن المراد بهذا اليوم مطلق الزمان ؛ كما نصَّ على ذلك غير واحد من المفسرين . ويدل على ذلك قوله تعالى في فصلت :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾(فصلت: 16) ، وقوله سبحانه في الحاقة :﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾(الحاقة: 7) . ومن قال منهم : أن المراد به يوم الأربعاء فيحمل على معنى أن ابتداء إرسال الريح التي أهلكوا بها كان في هذا اليوم ، لا أنه يوم واحد ، فلا ينافي ما جاء في فصلت والحاقة . ولو كان يومًا واحدًا ، لتناقضت الآيات مع بعضها ، ولما كان في وصفه بأنه ( مستمرٌّ ) أية فائدة ؛ لأن اليوم الواحد لم يستمر ؛ وكأنه قيل : في زمن نحس مستمر . قال قتادة :« استمر بهم حتى بلغهم جهنم » .. فكيف يقال بعد هذا : التدمير في آية الحاقة أكثر .. فتأمل ، وتدبر ! نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يحسنون التأمل والتدبر ، وأن يرزقنا الفهم لكلامه ، له الحمد ، وله الفضل والمنة !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك