كلام الشيخ عبد القاهر فى قول الله تعالى ولما ورد ماء مدين الى اخر الايه
وقد جاء في باب "كلام في النكرة إذا قدمت على فعل" من كتاب الدلائل :
وإن أردت أن تزداد تبييناً لهذا الأصل - يعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب - فانظر إلى قوله تعالى: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم أمرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل " ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع إذ المعنى : وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم وامرأتين تذودان غنمهما وقالتا: لا نسقي غنمنا فسقى لهما غنمهما .
ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقاً . وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا : لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي . فأما ما كان المسقي غنماً أم إبلاً أم غير ذلك فخارج عن الغرض وموهم خلافه . وذاك أنه لو قيل . وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت : ما لك تمنع أخاك كنت منكراً المنع لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة وأن الغرض لا يصح إلا على تركه .
ومما هو كأنه نوع آخر غير ما مضى قول البحتري من الطويل : إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب اطراحه . وذاك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه .
وكذلك حال الشفاء مع القرب حتى كأنه قال: أتدري ما بعادها هو الداء المضني وما قربها هو الشفاء والبرء من كل داء .
ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه .
وليس لنتائج هذا الحذف أعني حذف المفعول نهاية فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة وإلى لطائف لا تحصى .