لماذا يبكى المولود حال خروجه إلي الدنيا ؟
نخرج باكين من بطون أمهاتنا ، كارهين ما حل بنا ، خائفين من المنتظر ، نبكي رجاء عودتنا لجدران الحنان ... أحببنا أن نكون جزءًا من أجساد أمهاتنا ، فمن يفقد ما أحبه يبكي عليه ... لو كانت الحياة جميلة ، لما ولدنا ونحن نبكي ...
فالطفل يبكي ؛ لأنه أراد الحياة ... ولو لم يردها لما خرج من بطن أمه أصلاً ... إنه يبكي ، ويذرف دموع الاشتياق لأمه ، ولحنانها المتدفق من حنايا روحها ، رغم أنه لم يعرفها وجهًا ؛ إنما عرفها بروحها ومشاعرها .
يقول ابن القيم رحمه الله (1) : هناك سببان : سبب أخبر به الصادق المصدوق ، لا يعرفه الأطباء ، و سبب ظاهر .
أما السبب الباطن :
فإن الله اقتضت حكمته أنه وكَل بكل واحد من ولد آدم شيطانًا ؛ فشيطان المولود ينتظر خروجه ليقارنه " يكون قرينه " ، ويتوكَّل به ، فإذا انفصل استقبله الشيطان ، وطعنه في خاصرته ، تحرُّقًا عليه وتغيُّظًا ، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديمًا ، فيبكي المولود من تلك الطعنة ... وفي الصحيحين قوله صلي الله عليه وسلم :« ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخًا من نخسه ، إلا ابن مريم وأمه » .
والسبب الظاهر :
الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم ، وهو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلي أمر غريب ؛ فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه ، فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه... من كتاب ( التبيان ) لابن القيم .
يقول بروفيسور النساء والتوليد السعودي الدكتور عبد الله حسن باسلامة عن هذا الموضوع (2) :« لم أر طفلاً أو طفلة خرجت إلى هذه الدنيا ضاحكة ، أو حتى مبتسمة ، مع إني كنت هناك عند خروج العديد من الأطفال ، فالكل يخرج من بطن أمه صامتًا لحظات ، ثم يصرخ ، أو يبكي ، والذي لا يصرخ يكون عادة إما ميتًا ، أو في حالة إعياء ، أو صدمه من ضنك الحمل أو صعوبة الولادة » .
إذًا فكل قادم إلى هذه الدنيا يصرخ ، أو يبكي مع أنه كان الأولى به أن يضحك ويقهقة ، أو حتى يبتسم ويبدى علامات الرضا ، لعدة أسباب أهمها:
أنه خرج من الظلمات إلى النور ، ومن ضيق الأرحام إلى رحابة الكون ، ومن بحر من ( السوائل ) كان يعيش في وسطها إلى الهواء الطلق ... إلى الدفء النور ، إلى الشمس .
إنها ظاهرة عجيية ، ولقد سألت العديد من الأخصائيين في طب النساء والتوليد من غير المسلمين ، فلم أجد عند أحد منهم التفسير العلمي المقنع ؛ وإنما هي مبررات . أي : لا أحد يعلم : لماذا يستهل المولود حياته في هذه الدنيا صارخًا ؟
ولقد كنت اعتقد أن كل طفل آدم وحواء ، منذ الأزل وإلى أن تقوم الساعة ، يستهلون حياتهم في الدنيا صارخين ، إلى أن عرفت من هدي النبوي الشريف ، عرفت أن هناك اثنين فقط استهلا حياتهما دون صراخ ، وهما ابنة عمران ، وابنها عيسى عليهما السلام ، وعرفت سبب بكاء الطفل حين يولد .
إن بكاء الطفل من الناحية البيولوجية مفيد ؛ لأنه يسمح للهواء بالدخول إلى الرئتين ، ويمكن من انقباض وانبساط عضلة القلب ؛ إلا أن بعض الأطفال لا يبكون ، وخوفًا عليهم من الاختناق لعدم التنفس ، تعمد القابلة إلى إيلامهم بإبرة أو نحوها ، حتى يبكوا ويأخذوا الهواء ...
يقول ابن القيم فى كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود ) :
ولما كان مفارقة كل معتاد ومألوف بالانتقال عنه شديدًا على من رامه ، ولا سيَّما إذا كان الانتقال دفعة واحدة ، فالجنين عند مفارقته للرحم ينتقل عمَّا قد ألفه واعتاده في جميع أحواله دفعة واحدة ، وشدة ذلك الانتقال عليه أكثر من شدة الانتقال بالتدريج ، فالجنين ينتقل عما ألفه واعتاده في غذائه وتنفسه ومداخله وما يكتنفه وهلة واحدة . وهذه أول شدة يلقاها في الدنيا ، ثم تتوافر عليها الشدائد حتى يكون آخرها الشدة العظمى التي لا شدة فوقها ، أو الراحة العظمى التي لا تعب دونها ؛ ولذلك لا يبكي عند ورود هذه الشدة عليه مع ما يلقاه من وكز الشيطان وطعنه في خاصرته ، فإذا انفصل الجنين بكى ساعة انفصاله لسبب طبيعي ، وهو مفارقة إلفه ومكانه الذي كان فيه ، وسبب منفصل عنه ، وهو طعن الشيطان في خاصرته ، فإذا انفصل وتم انفصاله مد يده إلى فيه ، فإذا تم له أربعون يومًا تجد له أمرًا آخر على نحو ما كان يتجدد له ، وهو في الرحم ، فيضحك عند الأربعين .
فسبحان الذي بيده كل شيء ، يخرج المولود إلى حياتنا الدنيا باكيًا ؛ وكأنه يعلم مدى الشقاء والعناء الذى سيلاقيه فى هذه الدار ... وصدق الإمام الشافعيُّ :
ولدتك أمك يا بن آدم باكيـا *** والناس حولك يضحكون سـرورا
فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا *** فى يوم موتك ضاحكًا مســرورا