للكلمة خطرها و أثرها على الفرد و المجتمع،فكم من كلمة صنعت مجدا أو دعت إلى الخير أو أصلحت بين طرفين متنازعين...وكم من كلمة أثارت عداوات وأشعلت حروبا وورثت ضغائن طال أمدها...
وفي هذا المعنى يقول تبارك و تعالى
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)18،و قال النبي صلى الله عليه و سلم "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم "19.
ولذلك الغرض كان لابد من التبين و التثبت من صحة الأخبار قبل التفوه بها ، و خاصة إذا تعلق الأمر بالأعراض و المقدسات الشرعية.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)20: <<يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال،لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، و قبلها آخرون ،و قد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط،حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم على صدقات بني المصطلق،و قد روي من طرق منها ما رواه أحمد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال:قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاني إلي الإسلام فدخلت فيه و أقررت به ،و دعاني إلى الزكاة فأقررت بها،و قلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام و أداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته، و ترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا و كذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول و لم يأته و ظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى و رسوله،فدعا بسروات قومه(أي أشرافهم) ، فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ،ليقبض ما كان عندي من الزكاة و ليس من رسول الله صلى الله عليه و سلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم، و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق (أي خاف) فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الحارث قد منعني الزكاة و أراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعث البعث إلى الحارث و أقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم :إلى من بعثتم؟ فقالوا:إليك قال :ولم ؟ قالوا:إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة و أردت أن تقتله،قال : لا و الذي بعث محمدا صلى الله عليه بالحق ما رأيته بتة و لا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :"منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" ، قال و الذي بعثك بالحق ما رأيته و لا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، خشيت أن يكون كونت سخطة من الله تعالى و رسوله، قال فنزلت الحجرات"يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ...إلى قوله حكيم "أخرجه أحمد و ابن أبي حاتم و الطبراني>>21.إذن فهذه الآية الكريمة والحديث الذي ورد بشأنها يبين أن الفاسق كان صحابيا ومع ذلك لم تشفع له صحبته،بل عدته فاسقا،بمجرد أنه نقل خبرا كاذبا لم يتبين من صحته،فما بالك إذا كا نقلة الأخبار من الكذبة أو المغرضين والشانئين....
و تحدثنا السيرة النبوية الشريفة أن النبي بالرغم من أنه قد طلب منه أن يصالح كفار قريش عام الحديبية، إلا أنه لم يأذن له في رد المؤمنات بشرط التثبت و التبين من صحة إيمانهن.
فقال تعالى في ذلك
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار...)22، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: <<...فإن الله عز و جل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)23، و سبب النزول ما روي أنه لما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، خرج أخواها :عمارة و الوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلماه فيها أن يردها إليهما ،فنقض الله العهد بينه و بين المشركين في النساء خاصة ،فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين و أنزل الله آية الامتحان. وروى ابن جرير عن أبي نصر الأسدي قال:سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله النساء؟ قال: كان يمتحنهن: "بالله ما خرجت من بغض زوج، و بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، و بالله ما خرجت التماس دنيا، و بالله ما خرجت إلا حبا لله و رسوله "، رواه ابن جرير و رواه البزار من طريقه ،و ذكر أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله عمر بن الخطاب>>24.ولا ريب أن ذلك الامتحان كان لونا من ألوان التبين والتثبت من حقيقة إيمانهن
ولما كان الأصل في الإسلام السلم و حقن الدماء و تحريم الظلم ، عاتب الله عز و جل ورسوله كلامهما أسامة بن زيد حينما قتل عدوه بمجرد الظن في صدق إدعائه الإسلام ، فقد قال تعالى فيه خاصة و في غيره عامة: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألفى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا)25،فلما قرئت هذه الآية الكريمة على أسامة ،حلف لا يقتل رجلا يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه.
وفي سياق مخالف لموضوع التبين ، ينهي النبي صلى الله عليه و سلم عن التحقق في حال الظن و الشك فقال:<<إذا ظننت فلا تحقق>>26، و هذا من أ خلاق الإسلام العظيمة ،ذلك أن الأصل في الناس البراءة ،ثم إن محاولة معرفة ذلك ربما يحمل على تتبع العورات و التجسس مما يثير الاشمئزاز و الضغائن.
ولأمر ما لا تطبق الحدود الشرعية و التعازير إلا إذا وصلت إلى الحاكم ببيناتها ،إما بالإقرار و الاعتراف من الجاني أو بالإشهاد على الجناية ، فقال تعالى –في حد القذف –(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون )27.
وباب( الإشهاد) من أبواب الفقه ، الغرض منه ، التبين و التثبت من صحة الدعاوى في المعاملات و الجنايات و الحدود.
ويندرج تحت هذا الباب موضوع الفراسة و الأخذ بالقرائن و الأمارات و القافة(أي تتبع الأثر) و اللوث(غلبة الظن في وقوع القتل) ، وقد عقد الشيخ ابن قيم الجوزية في ذلك كتابا كاملا و سمه ب : (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) و بين فيه أن الحاكم من حقه إن عدم البينة و الدليل على المخالفات الشرعية أن يتبين و يتثبت بالقرائن و الأمارات ثم يبني على ذلك الأحكام.ولبيان هذا الباب النفيس نورد هاهنا مثالا واحدا من الكتاب العزيز، فقد ورد في قصة يوسف مع امرأة العزيز التي اتهمت نبي الله-بهتانا- بأنه راودها على نفسها فأبت عليه،و الحق غير ذلك ،و ذلك ما انتبه إليه الشاهد من أهلها بمجرد القرينة (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين)28.
ثم بعد ما ذكر الآيتين 25-28 من سورة يوسف من قوله تعالى( واستبقا الباب )إلى قوله (إن كيدكن عظيم ) ، قال :فتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب ، وهذا لوث في أحد المتنازعين،يبين به أولاهما بالحق.
وهذا نبي الله سليمان حينما جاءه الهدهد بخبر بلقيس و قومها ،لم يصدقه للوهلة الأولى بل أرسله بكتاب يتبين له من خلاله الأمر، قال تعالى في ذلك (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون)29.
ولما وصل الكتاب بلقيس و عرفت ما فيه جمعت قومها و استشارتهم في الأمر،ثم بدا لها أن تتبين و تتثبت من أمر سليمان: (و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون )30، فإن كان نبيا لم يقبل الهدية و إن قبلها فليس بنبي و لابد من قتاله ،كما ذهب إلى ذلك سيد المفسرين حبر الأمة عبد الله بن عباس ،فقال :"قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه،و إن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه "31.
وفي موضوع التبني عندما يدعي أحد إستلحاق الولد ، يتبين القاضي زعمه هذا بفارق السن أو شهادة مرضعة أو يمين ...و إلا فيعتبر أخا في الدين و مولى قال تعالى: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم