الإسلام دين العقل والعلم،ولا يقبل من أتباعه الإيمان بالحقائق الكبرى التي جاء بها الإسلام بمجرد التلقي،دون نظر وتمحيص،ولذلك وجدنا القرآن الكريم قد أورد حشدا حائلا من النصوص الكريمة التي تفرض النظر وإعمال الفكر للوصول إلى اليقين والتسليم المطمئن.
ومن بين أهم النصوص في ذلك قوله تعالى
فاعلم أنه لا إله إلا الله)1،ولم يقل: فقل لا إله إلا الله، ذلك أن القول باللسان يحسنه كل الناس مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم،أما العلم فيقتضي الاستدلال والتدبر والتبين عن طريق النظر في ملكوت السماوات والأرض،ومن ذلك قوله تعالى
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)2،ومنه قوله -يوجب التفكر-
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)3.
ولما كان السير في الأرض والتنقيب عن الآثار المدفونة ورؤية الأطلال القائمة مما يؤكد ما جاء في الكتاب العزيز،فقد ندب تعالى إلى ذلك في عدة آيات كريمة منها قوله
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير )4،والسير المقصود هنا ليس غرضه مجرد السياحة وتمتيع الأبصار بالمناظر الخلابة المبثوثة في الأرض والمعلقة في السماء،وإنما الغرض هو التبين ومطابقة ما جاء على لسان الرسول، من هلاك الأمم البائدة وما تركوه من آثار شاهدة على صدق ما ورد في النصوص الكريمة، ومن غايات السير أيضا الاعتبار بالآيات الكونية ورؤية عظمة وجلال الخالق المبدع،قال
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت)5.
وفي هذا السياق جاء القرآن بأسلوب يهاجم فيه من يقلدون الآباء والأجداد في موضوع الاعتقاد،ويؤكد على وجوب النظر وإعمال الفكر،ويستحث النفوس لطلب الدليل والتبين من صدقية الرسالة والرسول،وهاهو أبونا إبراهيم يحاور والده بأسلوب يفيض بالشفقة والأدب من جهة،ومن جهة أخرى يحثه على التبين من معبوده الذي لا يملك ضرا ولا نفعا
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا)6..ثم يتبرأ منه ويهجره بعد أن تبين له كفره وإصراره على ما وجد عليه الأولين
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)7
ويترك إبراهيم قومه حين خرجوا من القرية،فيعمد إلى كبير آلهتهم فيضع المعول في عنقه،بعد أن يحطم الأوثان الصغيرة،يسفه بذلك أحلام قومه الذين ألغوا عقولهم وخالفوا منطقها الصحيح.
وما أحوج مسلمي اليوم الذين تعودوا على أداء الطقوس الدينية بمجرد وراثتها عمن سبق من الآباء والأجداد إلى إعمال عقولهم والاستدلال بها على قضايا الإيمان،لأن هذا الاعتقاد الفاتر،وهذا الانهزام المقيت في شتى مجالات الحياة إنما يعكس ضبابية الإيمان وهوانه في نفوس أصحابه،ذلك بالرغم من توفر النصوص التي عز بها الأوائل وأقاموا بها حضارة ملأت الآفاق.
وليس هذا الكلام مما يطعن في إسلام الناس وإنما هو من باب طلب اليقين والطمأنينة التي احتاجها إبراهيم نفسه حين رجا ربه بقوله
رب أرني كيف تحيي الموتى؟قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)8،فهو رغم يقينه إلا أنه أراد أن يتحقق و يطمئن،وكذلك موسى حين طلب من مولاه أن يريه وجهه الكريم في قوله
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني)9..وإن كان حال موسى يعكس الشوق إلى رؤية المحبوب إلا أنه أيضا يدل على حاجة فطرية في نفس الإنسان إلى التبين والمكاشفة ليزداد الإيمان والتحقيق....وهاهو عُزير يتبين حقيقة القدرة الإلهية المطلقة من خلال عمليتي الإماتة والإحياء في قوله تعالى
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير)10.
ولتأكيد أمور الغيبيات المستترة عنا ورد في القرآن أن الله تعالى سيجعلها حقائق مكشوفة يوم القيامة،ليحصل اليقين لكل المخلوقات مؤمنهم وكافرهم، ومن ذلك قوله عزوجل
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمومنون)11.