اغلق (عزيز) باب المنزل المطل على الشارع عائدا من صلاة الفجر في المسجد كعادته يوميا، وقد أختلط على خجل البياض بالسواد في الجهات كلها مشيرا الى قرب شروق الشمس، بينما بدأت بعض نسائم الليل تتراجع امام أولى نفحات النهار التموزي القائظ، معلنة بدء نهار الجمعة18/7/2005 قبل إدائه الامتحان النهائي في سنته الاخيرة بكلية العلوم
تذكر عزيز حلم زملائه بيومهم الاخير هذا حيث الانتهاء من مرحلة الدراسة الجامعية وفرحتهم باكمالها أملا في افتتاح طريق آخر في حياتهم القادمة.... أما هو فقد كان يشغله هم آخر، فقد افتقد منذ بدء الامتحانات النهائية جو رفاقه المجاهدين وهم يلتقون بين الفينة والاخرى باحثين سبيل تنفيذ عملية جديدة يرهبون بها قوات الاحتلال لقد أقترحوا عليه ذلك حرصا على مستقبله مع انه يرى حياته معهم مع مقاتلة جنود الكفر ويوم تخرجه الاكبر حين ينتصر واخوته في هزيمة المعتدين... كانوا يدركون ذلك هم ايضا، فما عرفوه من عزيز من شجاعة واخلاص نية ودقة في قنص الاعداء لا يمكن أن يعوض، يقابل ذلك ان عمليات مجموعته تتم بحذر شديد، مختارين وقتا مناسبا من بين عدة ايام او ربما اسابيع لتنفيذ عملية واحدة تخفيا من رقابة الاعداء ومن والاهم من الخونة والجواسيس...
رسمت أولى رشفات اشعة الشمس حضورها الواهن بأصابع مرتجفة على اعلى جدار في سطح الدار، وهو لم يزل مدددا في فراشه متأملا في ابتسامات السماء الأولى، متأملا اصابعه الرشيقة كأنه ينذرها ببدء عملها في اقتناص الاعداء قريبا متوغلا في ذلك اليوم الذي احكم فيه موضعه على كتف احدى الطرق الفرعية حيث غالبا ما يمر جنود الاحتلال بدورياتهم المجلجلة، مخترقة ومدمرة طبيعة المكان الزراعية الخجول، في طريقهم الى قاعدتهم العسكرية القريبة او منطلقين منها... لقد وشك ذلك اليوم ان يعود خالي الوفاض، فلا صيد يذكر ولم تمر اية قافلة امريكية منذ ساعات، واذ راوده تفكير العودة حزينا بلا اي قربان لتحرير وطنه متخيلا صورته امام مجموعته وهو يطأطأ رأسه خجلا انه لم يقتل اي من المحتلين اليوم وهم بين مبتسم ومشجع، أخترقت أذنه بلا سابق اشارة أصوات لتحليق طائرة معادية تخترق صمت المكان، تستطلع المكان او ربما حماية لهم من عمليات المقاومة ....
آه كم يحلم بأقتناص طيار أحدى طائراتهم المحلقة على عجل وخوف فيكبدهم أقصى حد ممكن من الخسائر، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه....
كانت الدقائق حبلى بالتوقعات والهواجس وبندقيته القناصة ترقد بين يديه كأنها جثة هامدة او قطعة حديد ميت بلا حركة او بادرة حياة، وهناك حيث ينتهي بصره كانت اولى طلائع رتل قادم تدخل المشهد الهادئ، فحمد الله تعالى اذ يمهد له طريقا للجهاد وقتال الكافرين، واحكم اداء سلاحه واطلاقاته مجددا رغم يقينه من ذلك الا ان الاحتياط الدائم واجب واخذ المجاهد بالاسباب من اهم اشارات الاتقان في العمل والانتصار فيه، هذا ما تعلمه من رفاق دربه المجاهدين، واذ ابتعدت الطائرة كثيرا حتى اوشك صوتها ان يموت تماما كان رتل السيارات الامريكية يقترب مقدرا عدده بعشرة آليات بين سيارة كبيرة او صغيرة .... كانت السيارة قبل الاخيرة شاحنة عسكرية تنوء بحملها المجهول المغطى، ربما سلاحا او جنودا او طعاما لهم، لا يدري تماما ولايعنيه هذا الآن، ما يفكر فيه (عزيز) أيهما أنسب للهجوم، هذه الشاحنة ام سيارة الهمر ذات الأربعة جنود وقد سلموا رقابتهم للمكان الى احدهم يقف متحضنا سلاحه المنصوب على سقف السيارة مراقبا المسافات التي تتركها القافلة خلفها...
لم يكن هناك متسع في التفكير، فأختار سائق الشاحنة الكبيرة وبدأ على عجل وضعه في مرمى سلاحه القناص، كانت علامات ناظور القناصة تنقل له صورة جندي ضخم لا يتضح منه سوى رقبة مكشوفة بين رأس يحتمي بخوذة (خاكية) وكتف توارى خلف حديد باب الشاحنة، وهنا أستقر رأيه مسددا بعناية على صيد سمين وما ان انهى بصوت منخفض قوله(بسم الله والله اكبر) حتى تغير المشهد كله، فقد سدد الله رميته، واخترقت رصاصته القاتلة عنق سائق الشاحنة العسكرية،ولاحظ اضطرب سيرها وتعرجها الواضح بين اليسار واليمين ثم توقفت فجأة بعد ان تدلى رأس سائقها على المقود متلقية في الوقت نفسه ضربة اخرى من الخلف تسببت عن اصطدام السيارة الاخيرة بها اصطداما اشعل النار فيهما..... تم ذلك في ثوان لا يمكن ادراك سرعتها وبسرعة اكثر منها حمل سلاحه مختفيا بين الادغال في طريق عودته وانسحابه الظافر المعد سلفا له.
وحين عادت الطائرة الى مكان الحدث او ربما غيرها لم يعد يعنيه الامر تماما، فقد اندمج في طبيعة المكان العراقي النابض بحياة يوم جديد يعلن فيه بين لحظة واخرى رفض الاحتلال واختيار مقاومته مهما امتدت الايام وبعدت المسافات ...
كان كتاب امتحانه الاخير بين يديه يقلب صفحاته واحدة اثر اخرى بلا اندماج حقيقي معه، مع كل صفحة تسرح به خيالاته الى صورة نابضة مع رفاقه في المقاومة او حياته اليومية بينما نقلته صفحة اخرى الى جو الدراسة في الكلية مع كل حرف او كلمة او اشارة توقفه ذاكرته امام (لميس او ليلى او رغد او.....) من زميلاته الكثر وقد نصح هذه او اهدى تلك مصحفا لعلها تصحو على حقيقة حياتها الضائعة بين لهو المطاعم وموديلات الملابس والعلاقات التي لا تجدي نفعا، بعضهن طيبات يحس بفطرتهن صافية لو لا تأثيرات الآخرين والركض خلف قدواتهن من الفنانات او ضحايا الاعلام حتى سقطن هن ضحايا أيضا....
بعضهن يعود اليهن رشدهن في شهر رمضان فتصلي وتصوم وتلبس غطاء رأس اقترابا مما اراده الدين منهن ثم يعدن الى السفور واللهو بعد انقضاء شهر الصوم مباشرة، قال لرغد مرة:
-من تظنين ربك يا رغد ؟!
فبهتت من سؤاله لحظة وبدا عليها الارتباك ثم اجابت:
-انه الله جل جلاله يا عزيز والا فما هو قصدك ؟
- أليس الله موجودا في كل شهر ويوم وثانية يا رغد ؟
وأستغل ذهولها وصفاء فطرتها الذي كانت الأدران قد غطته فتكلم معها في الموت والعصاة حتى بكت على حين غفلة من الطلبة وهم يجوبون حديقة الكلية ذهابا وايابا.... وفي اليوم التالي أهدى لها كتابا يوضح صورة المرأة في الاسلام وما يريده دعاة التحرير لها من الخروج على الفطرة حتى تضيع او تصبح سلعة تبهج أنظار الرجال فقط، اما حين تكبر فليست لهم حاجة بها.......
وبعد شهر من نمط هذا الكلام معها تغيرت البنت كليا وهجرت لبسها المغري ومكياجها الفاضح وعلاقتها، حتى وجدت شابا مؤمنا تزوجها قبل نهاية العام الدراسي.... .
صفحات الكتاب بين يديه كثيرة يقلبها هواء المروحة، بينما تقلب ذاكراته صفحات ايامه واحدة بعد اخرى حتى قطع بنفسه الصلات بينهما حين ادرك تساقط الوقت من بين يديه فأندفع يدرس استعدادا لامتحانه الاخير غدا.
على ضوء قمر ذلك اليوم، ليلة انتهاء امتحاناته الاخيرة كان عزيز قد تمدد في فراشه تاليا بعض آيات الرحمن، مستلهما العزم منه تعالى على مواصلة درب الجهاد الذي بدأه مع ثلة المجاهدين حتى تميز بينهم بأنه(قناص) ماهر، وما من عملية او واجب تستدعي وجود هذه المهمة حتى يشير اليه الجميع بانه صاحب القدح المعلى في ذلك، ثم نقل اليه بعضهم ان الاهالي هناك ممن جمعتهم قرى اللطيفية وما حولها كاونوا يسمون طريق الذي يختاره دائما لتنفيذ مهامه انه (طريق الموت) وكثيرا ما رآه فلاحوا المنطقة او حتى بعض نسائها متأبطا (قناصته) فيبتسمون له علامة قبولهم مهمته فيبتسم هو ايضا من كذب من يدعي ان المقاومة في العراق ليست لها شعبية بل يتذكر بوضوح تكالب بيوت عدة في نفس المنطقة على تزويج شاب من المجاهدين حين تناهى الى سمعهم انه ينوي الزواج..... .
انقلب عزيز على جنبه الأيمن، وسرقه النوم من احلامه وذكرياته، حتى اللحظة التي افاق فيها على انفجار مروع وبعد لحظات ملأها القلق والتوتر والصراخ ادرك ان قوة من المحتلين داهمت بيته، وتذكر سلاحه البعيد لحظة قبل ان يتهجم عليه مجموعة من الجنود الامريكين وهم يرطنون بكلمات مختلفة ويصرخون صراخا هستيريا ادرك من خلاله انهم يبحثون عن المجاهدين او اي دليل يوصل اليهم.... .
كانت كل ثانية كانها دهر كامل وتمنى ان يكون ذلك مجرد كابوس، ولكنها حقيقة فعلا، وعاد الى نفسه الاستقرار شيئا ما وهو يرى اخوته وبقية العائلة سالمين، وقاده جنديان الى ممر البيت الخارجي، ممده احدهم ارضا حتى احس انه ينتمي الى تربة هذه الارض اكثر مما مضى وايقن ان التراب موطن الانسان النهائي ومحطته الاخيرة، وانسحب جندي منهما الى داخل المنزل مع البقية يفتشون غرف البيت وزواياه بحثا عن اي دليل يدينهم، اما الجندي الامريكي الآخر فقد علق سلاحه في رقبته واضعا بكل حقارة رجله على صدر عزيز فأختلطت انفاسه بما يحتويه هذا الصدر من آيات مباركات وطهر واندفاع للجهاد....
وحين ادرك ان الأمر لا بد منه وان جنود الاحتلال لن يتركوه الليلة لحياته او يوم تخرجه الاخير طوى بحركة سريعة رجل الجندي المطمئن ولواها بسرعة كبيرة حتى اسقطه على الارض فصرخ الجندي مستنجدا، وسحب عزيز، بندقيته من رقبته فذهل الامريكي اكثر وتلفت بحثا عن زاوية يختبأ فيها، الا ان الوقت لم بعد يحتمل اية ثانية زائدة فاطلق عزيز عليه النار مباشرة وركض ليختبئ خلف جدار البيت المجاور، كان الموقف صعبا للغاية، ولم يكن في ذاكرته من فعل مثل ذلك كي يحذى حذوه، الا ان اي تصرف في مثل هذا الموقف غير المواجهة يعد انتحارا، كما انه لم يكن معتادا على الهرب، كان يقنص الاعداء فعلا لا ان يقتنص هو.... .
وبدأت المواجهة القاسية غير المتكافئة رجل واحد امام مجموعة من حثالة البشرية مدججين بالسلاح، بينما يدجج الايمان صدره وحياته كلها، وان فتى اصحاب الاخدود كان وحيدا هو ايضا فأختار لنفسه ان يموت شهيدا، وقبل ان يحدد جنود الاحتلال موقعه اطلق عليهم وابلا من الرصاص شتت مجموعتهم في كل الاتجاهات، فقابلوه بالمثل، كانوا كثر وهو واحد فرد فأخرقت الرصاصات جسده في اكثر من موضع، وسقط عزيز عزيزا عند الله والمؤمنين محتضنا السلاح، ونالت احدى رصاصاتهم الغادرة امرأة في المنزل فقتلتها.
كان طويل القامة اسمر البشرة، جميل الهيئة، يحبه كل من يراه، هذا ما انطبع من صورته في عيون جنود الاحتلال وهم يقلبون جسده المضرج بالدم، الا انهم وان لم يحبوه كباقي من رآه من رفاقه و زملائه واهلهالا انهم هابوه، كانت صورته كما هي كأنه نائم لولا مساحات الدم التي زينته شكلا وعطرا ومعنى... وقرر جنود الاحتلال حمله معهم فحملوه الى قاعدتهم كما اعتادوا دائما حمل علامات واشارات هزائمهم المرة الى ثكناتهم قبل ان يراها الناس ويوثقوها، الا انهم بعد يومين عجزوا عن ادراك اسرار ما يريدون معرفته وما استعصى عليهم حيا فعل مثل ذلك ميتا وبقيت اسرار (قنصه) و(طريق الموت) والمجاهدين سرا لا يعرفه الا الله وبعض المقربين... .
وفي تلك الظهيرة القائضة اعاد الاحتلال جسده الى اهله، فأجتمع الناس من كل الجهات يتباركون برؤيا شهيد سبقهم جميعا الى الجنة، ويستنشقون عطرا لم يشهدوا مثله على الارض،وتجمع الكثيرون حتى ضاقت بهم الشوارع وهم يشيعون جثمانه الى قبره ، كانوا يتدافعون بينهم ليحضى الكل بشرف حمله واستنشاق عطره، مدركين انه نال(شهادة) لن توفرها لهم اية قاعة دراسية او جامعية او خبرة حياة، تاركا بقية صفحاته تقلبها الملائكة في جنة الخلد.