السلام عليكم ورحمة الله وبركاته !
لدي سؤالان يتعلقان بالإعجاز البياني للقرآن الكريم :
السؤال الأول :
قال الله تعالى في سورة ص :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص: 24) .
لماذا استخدم الله تعالى لفظ { خر } ؟ فإني- كما أعلم- أن الإنسان يخر ساجدًا . أي : بمعنى السقوط على الأرض بسرعة . أفيدوني جزاكم الله خيرًا .
السؤال الثاني :
هل هناك فرق في الآيات التي تتكلم عن القتال بلفظ { الكفار } . أي : الذين هم يحاربونكم ويعادوكم ، وإذا تكلمت عن الإحسان والعدل إليهم ؛ لكي يعرفوا أخلاق المسلمين تستخدم لفظ { الكافرون } ؟ خلاصة السؤال هو : هل في استخدام كلمة { الكفّار } تشديد ، و{ الكافرون } ، أو { الكافرين } تخفيف ، أم لا فرق بينهما ؟ جزاكم الله خيرًا
جواب السؤال الأول :
أولاً- الخرور هو سقوط وهويُّ إلى الأرض . يقال : خرَّ خُرورًا . أي : سقط وهوى ؛ وذلك يكون من أعلى إلى أسفل . قال تعالى :﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾(النحل: 26) . ويقال : خر ، لمن ركع ، أو سجد ، والشاهد قول كُثَيِّر عَزَّةَ :
رهبان مدين ، والذين عهـدتهم ... يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون ؛ كما سمعت كلامها ... خرُّوا لعزة ركعًا وسجــودا
ومن الأول قوله تعالى :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص: 24) . ومن الثاني قوله تعالى :﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً ﴾(مريم: 58) .
أما الركوع فهو الانحناء دون الوصول إلى الأرض . يقال : ركع الرجل ، إذا انحنى . وكلُّ منحنٍ راكع . قال لبيد :
أليس ورائي، إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب؛ كأني كلما قمـــت راكع
وأما السجود فهو تطامُنٌ وذلٌّ وصولاً إلى الأرض . يقال : سجد الرجل ، إذا تطامن وذل .
ثانيًا- قالوا : وقد يعبر عن السجود بالركوع ، وحمل جمهور المفسرين على ذلك قوله تعالى :﴿ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ﴾(ص: 24) ، أي : خر ساجدًا . وإلى هذا أشار أحد الشعراء بقوله :
فخر على وجهه راكعًا ... وتاب إلى الله من كل ذنب
وقال ابن العربي :« لا خلاف في أن الركوع هاهنا : السجود ؛ لأنه أخوه ؛ إذ كل ركوع سجود ، وكل سجود ركوع ؛ فإن السجود هو المَيْلُ ، والركوع هو الانحناءُ ، وأحدهما يدل على الآخر ؛ ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيْئَة ، ثم جاء على تسمية أحدهما بالآخر ، فسُمِّيَ السجودُ ركوعًا » .
والحقيقة ليس كما قال ابن العربي ؛ فالخلاف موجود ، بدليل أنهم اختلفوا في المراد من ركوع داود- عليه السلام- فذهب الجمهور إلى أن المراد به السجود . قال مجاهد : مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه ، حتى نبت المرعى من دموع عينه ، فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾(ص: 25) .
وذهب بعضهم إلى أن الركوع هنا على ظاهره ، بمعنى الانحناء . وحاول بعضهم أن يجمع بين القولين بأن يكون ركع أولاً ، ثم سجد بعد ذلك . أو أن الله سبحانه ذكر أول فعله وهو خروره راكعًا ، وإن كان الغرض منه الانتهاء به إلى السجود . وقيل : بل معنى { رَاكِعًا } : مصليًّا ، على اعتبار أن الركوع يراد به الصلاة .
ثالثًا- والصواب في ذلك- والله أعلم- أن الركوع هنا على ظاهره ، وهو الانحناء خضوعًا ، ومثله قوله تعالى :﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(55) . أي : وهم منحنون خضوعًا لله تعالى ؛ إذ لا يعقل أن يؤتوا الزكاة ، وهم ساجدون .
وإذا كان ثبت بالسنة المطهرة ، وإجماع المسلمين أن داود- عليه السلام- قد سجد لله عز وجل ، فإن سجوده هذا كان بعد انحنائه خضوعًا ، وإلى هذا ذهب الحسن بن الفضل ، فقال :« خر من ركوعه . أي : سجد بعد أن كان راكعًا » .
وأما ما استدل به بعضهم على أن المراد به السجود بأن الخرور هو السقوط والهوي إلى الأرض ، فقد ذكرنا فيما تقدم أن الخرور يقال للركوع وللسجود ، والله تعالى أعلم .
جواب السؤال الثاني :
أما جواب السؤال الثاني فلفظ { الْكَافِرُونَ } جمع :{ كافر } ، على وزن :{ فاعل } . ولفظ { الكُفَّارِ } جمع :{ كَفَّار } بفتح الكاف ، وكلاهما من قولهم : كفر يكفر ، فهو كافر ، وكَفَّار . والكفر في اللغة هو السَّتْرُ والتغطية . ووُصِفَ الليل بالكافر ؛ لأنه يغطي كل شيء . ووُصِفَ الزارع بالكافر ؛ لأنه يغطي البذر في الأرض . وكُفْرُ النعمة وكُفْرانُها : تغطيتها بترك أداء شكرها . قال أحدهم :« لو جاز أن تعبد الشمس في دين الله ، لكنت أعبدها ؛ فإنها شمس ما ألقت يدًا في كافر ، ولا وضعت يدًا إلا في شاكر » . فالكفر يضادُّه الشكر ، وفي اصطلاح الشرع يضادُّه الإيمان ، وهو مصدر سماعي لكَفَر يكفُر . وأصله : جَحْدُ نعمةَ المُنْعِم ، واشتقاقه من مادة الكَفْر ، بفتح الكاف ، وهو السَّتْرُ والتَّغطِيةُ ؛ لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها ؛ كما أن شاكرها أعلنها ؛ ولذلك صيغ له مصدر على وزن الشُّكر ، وقالوا أيضًا : كُفْرانٌ ، على وزن شُكْران . ثم أطلق الكفر في القرآن الكريم على جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة ، بناء على أنه أشد صور كفر النعمة ؛ وذلك أعظم الكفر .
واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر . ومنه قول الله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾(الأنبياء: 94) . واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران . ومنه قول الله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾(النساء: 136) ، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾(المائدة: 44) . وأما الكُفُور فيستعمل فيهما جميعًا ؛ كما في قول الله تعالى :﴿ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ﴾(الإسراء: 99) .
ثانيًا- جاء الأمر في سورة { الكافرون } من الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه بندائهم بوصف الكافرين :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ ؛ لأنه لا يوجد لفظ أبشع ولا أشنع من هذا اللفظ ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق ؛ كما لا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقة هؤلاء ، وأشدُّ وقعًا عليهم ، وإيلامًا لهم من لفظ { الكافرين } ، فهو ثمرة للجهل ، وصفة ذَمٍّ ثابتة ؛ ولكونه كذلك لم يقع الخطاب به في القرآن الكريم في غير موضعين ، هذا أحدهما . والثاني قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ﴾(التحريم: 7) . والفرق بينهما : أن ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ يحتمل أن يكونوا قد آمنوا ثم كفروا . وأما ﴿ الْكَافِرُونَ ﴾ فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم ثابتة فيهم ؛ سواء كانوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، أو كانوا من المشركين ، عبدة الأوثان والأصنام .
وأما لفظ { الكُفَّار } فالتشديد فيه للمبالغة في الوصف ، ويطلق في اصطلاح القرآن أكثر ما يطلق على المشركين ، عبدة الأوثان والأصنام ، وقد يطلق ويراد به عموم الكافرين ؛ كما في قوله تعالى:﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾(الفتح: 29) . وقال تعالى :﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾(البقرة: 276) ، فأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ، تنبيهًا على عظم أمر الربا ومخالفة الله عز وجل .
وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾(المائدة: 57 ) ، ففرق بين الكفار ، وأهل الكتاب وهم كفار. وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾(التوبة: 73 ) ، ففرق بين الكفار والمنافقين ، والمنافقون كفار بلا ريب .
وبهذا الذي ذكرناه يظهر الفرق في استعمال القرآن الكريم للفظ { الكافرين } ، ولفظ { الذين كفروا } ، ولفظ { الكفار } ، والله تعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين .
محمد إسماعيل عتوك