بنت الشاطئ
وأدب المرأة المسلمة
http://www.marefa.org/images/0/0e/%D8%A8%D9%86%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B7% D8%A6.jpg
أحوال الأديب وإبداعه لا يمكن الفصل بينهما وبين جوانب الحياة المختلفة التي تضفي أثرها عبر الأجواء والمتغيرات الحياتية والانهزامات والانكسارات التي تتعرّض لها أمته ، ذلك لأنها تعكس أثرها في الخطاب الإبداعي من خلال عدسة قلمه التي يلتقط به النص فيتجاوز الإبداع الاستثنائي الذي يميّزه عن غيره من الأدباء ، ويتعرّف حينها القارئ شخصية الأديب وبيئته ومراحل حياته من بين سطوره ...
من مصر العربية ومن على ضفاف نهر النيل بمحافظة دمياط نشأت وترعرعت الأديبة العربية المسلمة
عائشة عبد الرحمن
التي نسجت خيوطها الإبداعية بجدّ ونشاط ، لتكون من أوائل الأديبات المبدعات من النساء اللواتي أثبتن بجدارة عظيمة مكانتهن وحضورهن على مستوى الفكر الإسلامي والأدبي....
في عام 1913 ولدت حفيدة علماء الأزهر عائشة عبد الرحمن وسط بيئة ريفية محافظة لم تقبل لأبنائها أن تتأثر بتوجهات الفكر والثقافة الغربية ما دامت قادرة أن تبني لها حصنا قويا من تعاليم دينها ...
طموحاتها وتوجهاتها دفعتها إلى أن تتجاوز الصعاب والعوائق التي واجهتها من داخل أسرتها ، بغية إكمال دراستها وتعرّف ثقافة العصر الحديث التي فرضت وجودها ، واستطاعت بمساعدة جدها أن تتابع مسيرتها وتكمل طريقها مع التعليم الجامعي لتجمع بين ثقافتها الدينية ، وما ينفعها ويزيدها علما ومعرفة من ثقافة عصرها ...
اختارت البداية في توجهاتها أن تبدأ عالم الصحافة باسم مستعار نظرا للبيئة الريفية الملتزمة التي كانت تفرض عليها آنذاك ألا تفرغ مواهبها وقدراتها الإبداعية خارج حدود أسرتها ...
فكانت من أوائل الأديبات العربيات التي كان لها حضور إعلامي بارز ومتميّز في مشاركاتها مع عالم الصحافة والنشر ليكون أول عمل لها في مجلة النهضة النسائية يحمل اسما مستعارا
" بنت الشاطئ "
اختارته لنفسها لتكون بالقرب من قضايا أمتها وعلى كل المستويات الفكرية والاجتماعية والثقافية عامة ، وقضايا المرأة العربية المسلمة وتحريرها ومكانتها في الإسلام بوجه خاص ...ومن ثم تتابع طريقها دون توقف في النشر في جريدة الأهرام أكبر جرائد مصر العربية ....
انتسبت لجامعة القاهرة في كلية الآداب قسم اللغة العربية لتلتقي هناك بأستاذها في علوم القرآن أحد أعلام الفكر والثقافة آنذاك " الأستاذ أمين الخولي " وتستجيب لنصيحته التي كان مفادها إن أرادت أن تجعل من الدراسات الإسلامية جلّ اهتمامها فما عليها إلا أن تهضم وتفهم الأدب واللغة التي أنزل بها القرآن الكريم . وقد ساعدها أن تكون أهلا للعمل بنصيحة أستاذها أنها ترعرعت في بيت علم وفضل ، نهلت منه غزير العلوم والدراسات الإسلامية والأدبية .
تزوجت من أستاذها الشيخ أمين الخولي وأنجبت منه ثلاثة أبناء ، وكانت مثلا للمرأة الصالحة والأم المربية التي أرادت من خلالها أن تقول بأن المرأة المثقفة الواعية قادرة على أن تكون مثلا للزوجة الصالحة القانتة ، والمربية الفاضلة ، والأديبة المثالية في توجهاتها ونبل غايتها وهدفها .
لم تتوقف مسيرتها في عالم الأدب والفكر فكان لها أن حصلت على نيل رسالة الماجستير والدكتوراة في تحقيق ودراسة رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ويكون لها السبق بأن يناقشها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين .
عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ " سجلت للتاريخ والأجيال مواقف حاسمة في دفاعها عن الإسلام وقضايا أمتها ، ودعوتها لتعليم المرأة المسلمة وفق طبيعتها ، وفطرتها الأنثوية التي تتيح لها أن تحافظ على مكانتها ووجودها ، وتفرض احترامها بعيدا عن كيد الخائضين والمتشدقين بتحرير المرأة الذين يريدونها سلعة تباع وتشترى وفق أهوائهم ...
بل إنها أرادت أن تحفظ للمرأة العربية المسلمة مكانتها ؛ فلا تمتهن أنوثتها التي فطرها الله عليها ، ولا تنسى طبيعتها الهادئة الرقيقة ودور الأم المتفرّغة لأمومتها ، وإلا فالدمار والهلاك لأسرتها ومن حولها ...
وقد أطلقت على المرأة العصرية المتحررة التي أرادت أن تتخلى عن فطرتها عنوان " الجنس الثالث " الذي يُعرف باسم المرأة المسترجلة، وذلك في مقال نشرته جريدة الأهرام في حديث لها مع صديقتها الطبيبة النمساوية ، وذلك حينما رأت صديقتها الطبيبة – أثناء زيارتها لها - تعمل في المطبخ في عطلتها الأسبوعية من يوم الأحد ، فاستغربت منها وقالت لها :
" أما العمل يوم الأحد فربما فهمته ، وأما اشتغالك بالطبخ مع ما أعرفه من إرهاق مهنتك فهذا ما لم أنتظره .
فردت :
لو عكست لكنت أقرب إلى الصواب . فالعمل في عطلة الأحد هو المستغرب عندنا . لولا أنه فرصتي الوحيدة لكي أقف هنا حين ترين . وأما اشتغالي بالمطبخ فلعلي أتجاوز به نطاق مهنتي . إذ هو نوع من العلاج لحالة قلق أعانيها وتعانيها معي سيدات أخريات من المشتغلات بالأعمال العامة .
ولما سألتها عن سر هذا القلق - مع استقرار الوضع الاجتماعي للمرأة الغربية أجابت بأن ذلك القلق لا صلة له بمتاعب الانتقال المفروضة على جيل الطليعة من نساء الشرق وأنما هو صدى شعور ببدء تطور جديد يتوقع حدوثه علماء الاجتماع والفيسيولوجيا والبيولوجيا في المرأة العاملة .. وذلك لما لحظوا من تغير بطيء في كيانها لم يثر الانتباه أول الأمر ما سجلته الاحصاءات من اطراد النقص في المواليد بين العاملات .. وكان المظنون أن هذا النقص اختياري محض وذلك لحرص المرأة العاملة على التخفف من أعباء الحمل والوضع والإرضاع تحت ضغط الحاجة والاستقرار في العمل .. ولكن ظهر من استقرار الإحصاءات أن نقص المواليد للزوجات العاملات لم يكن أكثره عن اختيار بل عن عقم استعصى علاجه .. وبفحص نماذج شتى منوعة من حالات العقم اتضح أنه في الغالب لا يرجع إلى عيب عضوي ظاهر .. مما دعا العلماء إلى افتراض تغير طارئ على كيان الأنثى العاملة نتيجة لانصرافها المادي والذهني والعصبي عن قصد أو غير قصد عن مشاغل الأمومة ودنيا حواء وتشبثها بمساواة الرجل ومشاركته في ميدان عمله." (1)
عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ " الأديبة العربية المسلمة كانت تنادي ، وبصوت عال بأن لغة العرب وقوّتها وعالميتها مرتهنة بقوّة شعوبها في الحفاظ عليها والتمسك بها ، وأن وجه الخطورة والتحديات التي تتعرض لها اللغة العربية أكبر من الغزو الفكري والعقائدي والاعتداء على أراضيها ونهب ثرواتها ؛ وما على العرب إلا أن ينتبهوا لتراث أسلافهم وأمتهم ، وأن يكونوا دائما محافظين على لغتهم ، وألا ينسلخوا عن قوميتهم وشخصيتهم العربية الإسلامية التي رفعهم الله إليها .
وتتساءل هل لمثل هذه الأمة أن تقبل بأن تُمتهن لغتها ويُسرق لسانها ؟.
" الأمة قد تُمتحن باحتلال أرضها فتناضل من أجل الحرية حتى تستردها على المدى القصير أو الطويل .
وتُمتحن باغتصاب خيرات أرضها وأرزاق بنيها ، فتتحمل الجوع والحرمان ، وتقتات من أملها المرجو في الخلاص .
بل قد تحارب في عقيدتها ، فيتصدى الضمير الشعبي لحمايتها ، بالرفض والتعدّي .
لكنها حين تُمتحن بسرقة لسانها تضيع !
تُمسخ شخصيتها القومية وتبتر من ماضيها وتراثها وتاريخها ، ثم تظل محكوما عليها بأن تبقى أبداً تحت الوصاية الفكرية والوجدانية للمستعمر ، حتى بعد أن يجلو عن أرضها ."(2)
بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك في الدفاع عن قدسية لغتنا العربية الخالدة شعار العرب والإسلام حينما تناولت هذا الميراث اللغوي البياني في كتابها " التفسير البياني للقرآن الكريم " لتمضي منافحة عن دلالات وأصول لغتنا العربية بما تحتويه من ذخائر بيانية ، وفكرية أدبية خالدة .
ومما جاء على لسان الأستاذة إيمان الوزير :
" برعت بنت الشاطئ في إبراز دور اللغة العربية والغوص في أسبارها وتقفي بحورها عن طريق كتابها الشهير "التفسير البياني للقرآن الكريم" الذي تناولت فيه تفسير السور القصار من القرآن الكريم وذلك من وجهة نظر خاصة ، حيث فسرت ألفاظ القرآن الكريم من الناحية اللغوية فعملت على تلمس الدلالات اللغوية الأصلية في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية ، زاوجت من خلالها بين العقل والنقل في نقلها البياني ، فثبتت ما نقله الأقدمون من تفسير مع ما يتفق والمنطق العقلي في قبول هذا التفسير، فاستطاعت بهذه الخطوة التجديد في التناول والهدف والتفنيد لآراء القدماء والمحدثين ، موجدة بذلك منهجاً جديداً ساهم في البناء الفكري للحضارة الإسلامية ومدافعاً عن اللغة العربية في عصر اعتبرت فيه هذه اللغة قاصرة عن إيجاد مصطلحات وافية في مختلف جوانب التقنية العلمية التي وصلت إليها البشرية في عصرنا الحديث. "(3)
http://www.malware-site.www/pic/decoration005_files/87.gifعائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ " في سطور :
" مفكرة وكاتبة مصرية، وأستاذة جامعية وباحثة، معروفة بدفاعها عن الإسلام وعن حرية المرأة، اشتهرت بلقب ببنت الشاطئ.
وُلدت عائشة عبدالرحمن في مدينة دمياط بشمال دلتا مصر في 6 نوفمبر 1913، وهي ابنة لعالم أزهري، وحفيدة لأجداد منعلماء الأزهر ورواده، وتفتحت مداركها على جلسات الفقه والأدب، وتعلمت وفقاً للتقاليد الصارمة لتعليم النساء وقتئذ في المنزل وفى مدارس القرآن (الكٌتَّاب)، ومن المنزل حصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929 بترتيب الأولى على القطر المصري كله، ثم الشهادة الثانوية عام 1931، والتحقت بجامعة القاهرة لتتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية 1939، ثم تنال الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941.
في عام 1950 حصلت على شهادة الدكتوراه في النصوص بتقدير ممتاز، وناقشها فيها عميد الأدب العربي د. طه حسين.
تدرجت في المناصب الأكاديمية حتى أصبحت أستاذاً للتفسير والدراسات العليا في كلية الشريعة بجامعة القرويين في المغرب، حيث استمرت هناك لمدة 20 عاماً، وأستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس بمصر، وأستاذاً زائراً لجامعات أم درمان 1967 والخرطوم، والجزائر1968، وبيروت 1972، وجامعة الإمارات 1981 وكلية التربية للبنات في الرياض 1975ـ1983.
وكانت عضواً بكل من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، والمجالس القومية المتخصصة، والمجلس الأعلى للثقافة.
بدأت د. عائشة عبد الرحمن النشر منذ كان سنها 18 سنة في مجلة النهضةالنسائية، ثم بعدها بعامين في جريدة الأهرام، ونظراً لشدة محافظة أسرتها آنذاك والتي لم تعتد انخراط النساء في الثقافة اختارت التوقيع باسم "بنت الشاطئ".
وعقب ذلك بعامين بدأت الكتابة في جريدة الأهرام فكانت ثاني امرأة تكتب بها بعد الأديبة مي زيادة، وظلت تكتب بجريدةالأهرام حتى وفاتها، فكان لها مقال أسبوعي طويل، فكانت آخر مقالة نُشرت لها بتاريخ26 نوفمبر 1998 وكانت بعنوان "علي بن أبي طالب كرم الله وجهه".
أهم الأعمال:
كتب ودراسات:
"التفسير البياني للقرآن الكريم"، "الإعجاز البياني للقرآن"، "بنات النبي"، "نساء النبي"، "أمالنبي"، "السيدة زينب"، "عقلية بني هاشم"، "السيدة سكينة بنت الحسين"،"الإسرائيليات في الغزو الفكري"، "نص رسالة الغفران للمعري"، "الخنساء الشاعرة العربية الأولى"، "مقدمة في المنهج ، وقيم جديدة للأدب العربي"،"المرأة المسلمة"،"رابعة العدوية"، "القرآن وقضية الحرية الشخصية الإسلامية"، "الحديث النبوي: تدوينه ومناهج دراسته".
أعمال أدبية:
"على الجسر"، "الريف المصري"، "سر الشاطئ"، "سيرة ذاتية".
حصلت بنت الشاطئ على الكثير من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية للأدب في مصر في عام 1978، جائزة الحكومة المصرية في الدراسات الاجتماعية والريف المصري عام 1956، ووسام الكفاءة الفكرية من المملكة المغربية، وجائزة الأدب من الكويت عام 1988، وفازت أيضا بجائزة الملك فيصل للأدب العربي مناصفة مع د. ودادالقاضي عام 1994.
منحتها العديد من المؤسسات الإسلامية عضوية لم تمنحها لغيرها من النساء مثل مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، والمجالس القومية المتخصصة، وأيضاً أَطلق اسمها على الكثير من المدارس وقاعات المحاضرات في العديد من الدول العربية.
وقد توفيت د. عائشة عبدالرحمن في 1 ديسمبر 1998، إثر إصابتها بأزمة قلبية أدت إلى حدوث جلطة في القلب والمخ وهبوط حاد بالدورة الدموية" .(4)