سبحان من خلق كل شيء فأبدعه، وصور كل شيء في هذا الكون فأتقنه، خلق الإنسان على الأ...رض ويسَّر له كل الظروف المناسبة لحياته عليها، وجعل فيما حوله آيات بينات باهرات ليهتدي بها في حياته على الطريق القويم ، ولعل تعاقب الليل والنهار بهذا النظام المحكم من أهم هذه الآيات. قال تعالى: { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً } الفرقان، و(الخلفة) كما ذكر القرطبي كل شيء بعد شيء وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ومنه خلفة النبات وهو الورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. (لمن أراد أن يذَّكّر) أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعله عبثاً فيعتبر في مخلوقات الله تعالى ويشكره على نعمه.
وقوله تعلى: { وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً } النبأ.
وصف سبحانه الليل باللباس تشبيهاً له من حيث أنه يستر الأشياء ويغشاها ، وقال القرطبي يعني ستراً للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن.
وقوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } الفرقان.
قوله { سباتاً } أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال، وأصل السبات من التمدد، وقيل للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون وفي التمدد معنى الراحة. وقوله { وجعل النهار نشوراً } من الانتشار للمعاش والعمل .
فالله سبحانه -جلت قدرته- جعل الليل لباساً يستتر به الإنسان عن عالم العمل ليفتحها على عالم الأمل، والنوم فطرة الإنسان منَّ الله بها عليه، ولا يمكن لبشر أن يظلَّ مستيقظاً لا ينام فتلك صفة الواحد القهار لا يشاركه فيها أحد فهو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .
وقوله تعالى:{ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً} النمل.
قال الرازي لما قال {جعلنا الليل ليسكنوا فيه } فَلِمَ لم يقل والنهار لتبصروا فيه؟، وجوابه لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل أما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية.
وقوله تعالى: { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} الروم.
تذكر أبحاث طبية حديثة أن الغدة الصنوبرية الواقعة تحت الدماغ تقوم بإفراز مادة الميلاتونين، ويزداد إفراز هذه المادة في الظلام بينما يثبط نور الشمس إفرازها، وقد وُجد أن للميلاتونين تأثير مباشر على النوم. وفي الحقيقة فإنه لحدوث النوم يلزم زوال جميع التنبيهات الخارجية من سمع وبصر والتي تنتقل عن طريق حواسه إلى الدماغ وعندما تخف تلك التنبيهات أو تنعدم تخف وظائف الدماغ المتوقفة عليها ويحصل النوم، فسبحان من جعل الليل سكناً.
وهكذا فإن الظلمة وما يرافقها من سكون الليل وهدوء الحركات كلها عوامل تهيئ للإنسان الظروف المناسبة للسكن والراحة والنوم .وإن تعاقب الليل والنهار هي آية من نواميس الحياة التي سخرها الخالق -جلّت قدرته- لخدمة هذا الإنسان، كما قال تعالى: { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } إبراهيم.
إن تعاقب الليل والنهار يعتبر ضرورة أساسية لنمو الحياة على الأرض. وإنه لمن المحال -علمياً- أن تستمر الحياة مع نهار سرمدي أو ليل سرمدي، وإنه لمن المستحيل أن تتعاض الحقائق العلمية مع النص القرآني. انظر إلى قوله تعالى: { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } القصص.
إنّ تخصيص النهار للمعاش والعمل والسعي، وتخصيص الليل للنوم والسكن هو حقيقة علمية كونية أكدت جميع البحوث الطبية الحديثة صحتها، وإن محاولة الإنسان مخالفة سنة الكون هذه بأن ينام في النهار ويسعى على رزقه في الليل يعرض صحته لنكسات وأذيات كبيرة .
وينقل الدكتور حسان شمسي باشا فقرات من بحث هام أجري في جامعة هارفرد الأميركية تؤكد أن العمل الليلي يشكل مصدر خطر صحي في العالم المتحضر اليوم يشمل ازدياد العقم والأرق، كما يترافق بنقص في قدرة الإنسان على إنجاز عمله بشكل تام،ونقص في تيقظه، مما يؤدي إلى نقص معدل الإنتاج وزيادة معدل الحوادث.
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل في الوقت الذي تخلد فيه الكائنات الأخرى للنوم، ثم هو يحاول أن ينام في الوقت الذي يبلغ فيه استيقاظه الغريزي ذروته. ويؤدي هذا السلوك إلى إحباط النظام الطبيعي لساعته الحيوية (البيولوجية) هذه المشكلة تشمل الملايين العاملين في المناوبات الليلية والمسافرين كثيراً عبر القارات، وإن استمرار عملهم لفترة طويلة ليلاً مع عدم إمكانية تكييف ساعاتهم الحيوية مع تغير نظام حياتهم اليومي يؤدي إلى نقص في القدرة على الإنجاز مع ازدياد الحوادث الناجمة عن التعب والإعياء.
ولعل الدكتور الراوي والذي يعتبر الرائد في أبحاث الإعجاز الطبي في القرآن هو أول من أشار إلى الإعجاز العلمي في قوله تعالى: {جعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً } فأكد أن قوانين الطب تمنع الاستمرار في العمل الليلي بصورة دائمة وتفرض وجوب المناوبة على الأعمال بصورة دورية بين الليل والنهار إن لم يجد المرء العمل النهاري الدائم، وإن الاستمرار على العمل ليلاً والنوم نهاراً له خطر بالغ على كافة أجهزة البدن وخاصة الجهاز العصبي، وأن النوم الليلي يعتبر كغذاء مشبع لهذا الجهاز،قادر على إعادة الحيوية والفعالية العضوية للحجر الدماغية.
وتؤكد الأبحاث الطبية المعاصرة أن نور الشمس يبقي على الجهاز العصبي وإن نام صاحبه بحالة من التوتر الحاد وليست له القدرة على الاسترخاء الوظيفي الضروري لراحته،مما يؤدي -مع استمرار نومه نهاراً- لتعرض الجسم للسقم والضعف والانهيار. وإن الظلام يعتبر من أهم العناصر التي تحتاجها الجملة العصبية أثناء النوم ليتم ترميمها وأن النوم العميق الذي لا بدَّ منه لراحة الأعصاب لا يحصل إلا مع هدوء الليل وظلمته. وهنا نقف خاشعين أمام عظمة القرآن البليغ في قوله تعالى: { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً } يونس.
ودلَّت الأبحاث الحديثة أيضاً أن الضوء الأحمر ضارٌّ بالجهاز العصبي أثناء النوم، وأشعة الشمس عند شروقها قريبة من اللون الأحمر، لذا كان النوم في ساعات الصباح -وقت الشروق- منافياً لقواعد الصحة العامة، وأن العمل ليلاً والنوم نهاراً إذا استمر طويلاً، يتعرض البدن للاضطرابات العصبية وانهيار الصحة العامة، وأن النوم النهاري يخالف الطبيعة الإلهية التي فرضت على النهار الحركة والضوضاء والشمس، والتي تتعارض كما رأينا مع شروط النوم العميق، ثم إن الهروب الدائم من الشمس في النهار للنوم في غرفة مظلمة يعرِّض الإنسان لخطر الإصابة باضطراب تمثل الكلس في العظام نتيجة فقدان الفيتامين د الذي تكونه أشعة الشمس في الجلد، كما أن أشعة الشمس ضرورية لقتل الكثير من الجراثيم وللوقاية من العديد من الأمراض المهلكة .
النوم والموت
ينفصل النائم عما حوله تماماً بكل مداركه وكأنه ميت، والقرآن الكريم يشبه النوم بالموت في مواقع عدة. فقد قال تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } الزمر.
يقول فخر الدين الرازي المقصود من الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها. فالله سبحانه يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت، يمسكها ولا يردها إلى البدن. أما الأنفس التي يتوفاها عند النوم فيردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.
وفي هذا يقول الدكتور النسيمي يتوفى الله نفس الإنسان فيميته بعد أن يستوفي ساعات عمله ورزقه المسجل أنه سيحدث في يقظته بين نومين، فيدعه في النوم شبه الميت من انعدام الوعي والإدراك، أي أن الله سبحانه يقبض تلك الأنفس عن التصرف أثناء النوم ويطلقها في اليقظة بالتصرف وذلك حتى يأتي أجلها المحدد.
وبذلك يمكن فهم قوله تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } الأنعام.