أحاديث رمضان 1424 هـ - مكارم الأخلاق - الدرس (09-32) : غض البصر
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-11-08
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين
أيها الإخوة: الموضوع اليوم غض البصر، فغض البصر اصطلاحاً أن يغمض المسلم نظره عما حرم عليه، ولا ينظر إلا لما أبيح له النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره سريعاً، هذا هو التعريف الاصطلاحي لغض البصر.
الإمام القرطبي يقول: " البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، أكبر باب، بل أوسع باب إلى القلب هو البصر، وأعمق طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله .
الآية الأولى في هذا الباب قوله تعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
( سورة النور )
أما كلمة (من) فتفيد التبعيض، أنت مكلف أن تغض البصر، لا عن كل النساء بل عن النساء الأجنبيات، لكن النساء المحارم لك أن تنظر إليهن.
المعنى الثاني: إذا نظرت إلى النساء المحارم الأم ـ الأخت ـ البنت ـ العمة ـ الخالة ـ بنت الأخ ـ بنت الابن ـ ينبغي ألا تدقق، وألا تتبع التفاصيل والخطوط، وشيء طبيعي جداً أن الإنسان ينظر نظرة كلية، أما الأخت القريبة فلا ينبغي أن ندخل عليها بلا إذن، ولو أن المرأة أم الإنسان، لأن النبي e حينما نهى عن الدخول على الأم، وقال له رجل: إنها أمي، قال: أتحب أن تراها عريانة، حتى المحارم ينبغي ألا تدقق في التفاصيل، ولا ينبغي أن تملأ عينيك من محاسنهن، وينبغي أن تنظر إليهن نظرة إجمالية.
أما المحارم فينبغي أن يكون ثوبها ثوب خدمة، هناك من يظن أنها أخته، الأخت ينبغي ألا تظهر أمام أخيها إلا بثياب الخدمة، وثياب الخدمة كما وصفها العلماء، النحر مستور، تحت الركبة، وإلى المرفقين، والنحر مستور، هذه ثياب الخدمة، أما أن تقوم الفتاة أمام أخيها بثوب فاضح، أو قماش شفاف، ولو أنها أخته فهذا محرّم، سمح لك أن تجلس معها، وأن تنظر إليها، وأن تخاطبها، وأن تسهرا معاً، ولكن بثياب محتشمة، عبر عنها العلماء بثياب الخدمة، أما التفاصيل فلا يمكن أن تدقق في التفاصيل، هذا منهي عنه، لأن النظر هنا يعني من أبصارهم، فلا تدقق في التفاصيل، هذا المعنى الثاني.
والمعنى الثالث: النظر الفجائي ينبغي أن تصرف عنه بصرك.
أيها الإخوة: الأحاديث: فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ))
[ أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت].
الإنسان مسموح له أن يأكل ما حرم عليه اضطراراً، لو أنه أشرف على الموت فبإمكانه أن يأكل من لحم الخنزير بالقدر الذي يبقي به حياً، لو أنه أشرف على أن يموت اختناقاً بإمكانه أن يشرب شربة من شراب محرم ليبقى به حياً، إذاً عندنا أكل عند الضرورة، وعندنا شرب عند الضرورة، لكن ليس عندنا زنا عند الضرورة، السبب، أن الدافع إلى الطعام يبدأ من الداخل، فلو وضعت إنسانًا في غرفة، وليس فيها شيء يشير إلى الطعام يجوع الإنسان، يشعر بحاجة من الداخل، لكن قضية الشهوة إلى المرأة تبدأ من الخارج، إما من امرأة تبرز محاسنها، فعليك أن تغض البصر عنها، فمبعث الشهوة الجنسية تبدأ من الخارج لا من الداخل، أما الرغبة في الطعام فتبدأ من الداخل، مادام تبدأ من الداخل فعندنا أكل اللحم المحرم اضطرارًا، وليس هناك ما يسمى بالزنا الاضطراري، لأن الزنا أساسه معصية تبدأ من الخارج، فالمرأة مكلفة أن تتحجب، والرجل مكلف أن يغض البصر، لو أن المرأة محجبة والرجل يغض البصر هذا أكمل شيء.
لكن لأن المرأة إذا تفلتت فالضمان أن تغض أنت البصر، والرجل إذا تفلت الضمان أن تحتجب هي عنه، فإذا كان طرف من الأطراف خرق الاستقامة فالضمان أن الطرف الثاني يأخذ احتياطاً، إذاً الرجل مكلف أن يغض البصر، والمرأة مكلفة أن تتحجب:
((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ))
[ أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ِإيّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطّرُقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَنَا بُدّ مِنْ مَجَالِسِنَا. نَتَحَدّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاّ الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطّرِيقَ حَقّهُ))
الآن حق الطريق، يعني أنت واقف أو ماشٍ، أنت الآن في الطريق، يمكن أن يكون لك محل على الطريق، ويمكن أن تمشي في الطريق، فما هي آداب الطريق ؟
((قَالُوا: وَمَا حَقّهُ ؟ قَالَ غَضّ الْبَصَرِ، وَكَفّ الأَذَىَ، وَرَدّ السّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ))
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال:
((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ ))
أحيانا يمشي الإنسان في طريق، وهناك منعطف حاد، فلما وصل إلى المنعطف فوجئ بامرأة سافرة رآها، لكن الموقف الشرعي قال:
((فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي))
(مسلم)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يَا مَعْشَرَ الشبَابِ عَليْكُمْ بِالْبَاءَةِ. فإنّهُ أغَضّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ. فإِنّ الصّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ))
(البخاري ومسلم)
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لا تُبْرِزْ فَخِذَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إلَى حَيَ وَلاَ مَيّتٍ))
(أبو داود، ابن ماجه، أحمد)
لذلك بعض أنواع الرياضة التي فيها كشف للعوارت ينبغي أن يبتعد عنها المسلم، ما دام الفخذ مكشوفة فلا بد من الابتعاد عن هذه الأنواع من الرياضة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ))
(مسلم)
وهذا الحديث يشير إلى انحرافين جنسيين خطيرين، الأول بين الذكور، والثاني بين الإناث، وهما موجودان بسبب مخالفة الناس لهذا التوجيه النبوي.
وعَنْ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ:
((يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ))
(الترمذي)
ولكن التساؤل: هذه الأولى كم زمنها ؟ ينبغي أن تكون في أقلِّ زمن ممكن، فإذا أطال هذا الإنسان النظرة الأولى فقد وقع في المخالفة.
من أقوال بعض العلماء في شأن غض البصر، يقول أحد صحابة رسول الله عبد الله بن مسعود:" حفظ البصر أشد من حفظ اللسان".
المسلم في الأصل أنه لا يرتكب الكبائر، لا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل، ولا يشرب الخمر، ولكن بلاء المسلمين ليس في الكبائر، فيما يتوهمونه صغائر، والصغائر إذا أصر الإنسان عليها انقلبت إلى كبائر.
((إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تخافون من أعمالكم ))
يعني يتكلم فيغتاب، ويجلس مع من لا تحل له فيملأ عينيه من محاسنها، فإذا باع واشترى لم يدقق فيما يقول، قد يحلف يميناً كاذبة،
((إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تخافون من أعمالكم))
فضبط اللسان وضبط العين.
سيدنا ابن مسعود يرى أن حفظ البصر أشد من حفظ اللسان.
هناك فكرة أتمنى أن تكون واضحة، وأعظ بها إخوتي ونفسي، إذا كان هناك شهوة فيها إصرار، فإذا كانت هذه الشهوة أغلى عليك من الله فالطريق إلى الله ليس سالكًا، لا بد من أن تتخلى عن كل حظوظك النفسية، وأن تنصاع إلى منهج الله عز وجل، فأي إنسان يصر على معصية ولو بَدَت له صغيرة، وقد رأى أن حظه من هذه المعصية أغلى من حظه من الله فالله سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك.
ويقول ابن مسعود أيضاً:
(( ما من نظرة وإلا وللشيطان فيها مطمع))
يعني أكبر الفواحش تبدأ بإطلاق البصر، الفواحش الكبيرة، فمادام الموضوع طرقناه فلابد من توضيح، أنت يمكن أن تنظر إلى وردة، ولست مكلفاً أن تغض البصر عنها، مع أنها جميلة، يمكن أن تنظر إلى حديقة فيها مسطح أخضر، فيها ورود، ولست مكلفاً أن تغض البصر عنها، مع أنها جميلة، ويمكن أن تنظر إلى ساحل بحر، إلى سفح جبل أخضر، يقول لك: منظر رائع، مع أنه جميل، فلست مكلفاً أن تغض البصر عنه، فلماذا أمر الإنسان المؤمن أن يغض بصره عن المرأة ؟ هذا شيء آخر، المرأة بالذات إذا نظرت إليها تبدلت كيمياء الدم، ولا تكتفي بالنظر إليها، من شأن المرأة أنك إذا نظرت لا تكتفي بالنظر، بل لا بد من أن يتبع النظرة حركة، طبعاً بحسب الموانع والأعراف والتقاليد، أما لو أتيح لك أن تتابع الأمر لما توقف الأمر عند النظر، لذلك في كل شيء أنت محرم عليك أن تفعل شيئاً مخالفاً للمنهج، أنت في حديقة، رأيت وردة، أعجبتك، تأملت فيها، استمتعت بها، لا تؤاخذ على إدراك أنها وردة، كما لا تؤاخذ أن تذوق جمالها، لكن تؤاخذ إذا قصصتها بالمقص، هذا عدوان على أزهار الحديقة، أما المرأة فأنت ممنوع أن تدركها، أن تتأمل بها، وأن تتمتع بجمالها، فضلاً عن أن تقترب منها، لأن قضية المرأة لها خصوصية، لقوله تعالى:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾
( سورة آل عمران الآية: 14 )
والآن هناك شيء اسمه علم نفس الجنس، لو تتبعت دقائق هذا العلم لهالك، أي لأدهشك، أن ما ورد في السنة الصحيحة من أشياء متعلقة بالجنس متطابقة تماماً مع علم نفس الجنس تطابقاً دقيقاً، وحينما كنت في سفري الأخير، وأنا في الطائرة طالعت مجلة، فإذا فيها مقالة لدكتور بمصر متخصصة في علم النفس الجنسي، تقول هذه الطبيبة: إنها حينما كلفت بإعداد موضوع عن الحالات الشاذة لهذا الميل في الإنسان، أرادت أن تعرف الوضع الطبيعي المسموح به، فطالعت كتب الفقه وما في السنة من أحاديث متعلقة بهذا الموضوع، وفوجئت أن أدق التفصيلات التي مرت بها في هذا العلم مغطاة بأحاديث صحيحة، إذًا هذا الذي قاله النبي ليس من عنده.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
( سورة النجم )
وهناك جرائم ارتكبت في بعض بلاد الغرب بسبب مخالفة لهذه التوجيهات النبوية الدقيقة جداً، طبعاً هذه العلاقة بين الزوجين علاقة حميمة جداً، والسنة النبوية المطهرة غطت تفاصيل هذه العلاقة الحميمة، وغطت ما ينبغي وما لا ينبغي، وما يجوز وما لا يجوز، لكن أشقى الناس هؤلاء الذين فهموا الدين على أنه عبادات شعائرية، بينما الدين - ولا أبالغ - مئة ألف بند، يغطي كل حركة الإنسان، بدءاً من فراشه إلى حركته، وأنت في أشد العلاقات خصوصية هناك أحكام شرعية يجب أن تراعيها، وانتهاءً بأوسع العلاقات ضخامة، كالحروب بين الأمم، الشرع يغطيها، أنت حينما تعتقد أن الذي قاله النبي من خبرته، ومن بيئته، ومن ثقافته فأنت مخطئ، الذي قاله النبي وحياً يوحى، لذلك قد تجد أشياء في السنة يصعب أن تفسر وقتها، أما الآن فتفسَّر، إذاً الله عز وجل أمَره أن ينطق بهذا.
وقال أنس بن مالك:
((إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك))
لا تنسوا أننا في عصر فيه فتن، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))
[ رَوَاهُ مُسلِمٌ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ]
عبادة الله في الهرج، في زمن الفتن كهجرة إلى النبي e .
ويقول وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى:
(( خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد فقال: إنا أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا))
لذلك في آخر الزمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم ؟ قال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير معواناً، ولا يجدون.
وقال بعضهم:
(( من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة سادسة، وهي أكل الحلال لم تخطئ له فراسة))
وذكرت لكم أيضاً أن حكمة ربنا عز وجل أن بعض الأوامر الإلهية متطابقة مع القوانين، فكما أن الشرع يحرم السرقة والقانون يحرمها، فهذا الذي لا يسرق يا ترى خوفاً من الله أم خوفاً من القانون ؟ الله أعلم، الله وحده يعلم، لكن حكمة أخرى صارخة هو أن في الدين أوامر ونواهي لا علاقة لها بالقوانين إطلاقاً، لا تجد على سطح الأرض نظامًا ولا ثقافة ولا مذهبًا يمنع إطلاق البصر، إلا في الدين، فهذا الذي يغض بصره لا شك أنه يخاف الله، أراد الله أن يبين لك أن بعض الأوامر تؤكد لك إخلاصك لله عز وجل، ومن أدق التفاصيل لو أن امرأة يفحصها طبيب، فالطبيب له أن ينظر إلى موطن الداء، ومكان الألم، لكن لو أنه استرق النظر إلى مكان آخر لا تشكو منه المرأة، من يعلم به ؟ الله وحده قال تعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾
( سورة غافر )
وأنت حينما تصلي الصلوات الخمس تتقرب بها إلى الله، لكنك إذا مشيت في الطرقات تتقرب إلى الله مئات المرات، كلما غضت بصرك عن امرأة لا تحل لك تقربت إلى الله بهذا الغض، لأنها قضية معاكسة للشهوات.
يقول بعض العلماء: قد أمر الله في كتابه بغض البصر، وهو نوعان، غض البصر عن العورة، وغض البصر عن محل الشهوة.
طبعاً العورة نوعان: مغلظة ومخففة، السوءة هي العورة المغلظة، والمخففة من السرة إلى الركبة، لكن في غض بصر عن أماكن أخرى، موضع القلادة، الصدر مثلاً هذه سماها العلماء بالزينة الباطنة:
﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾
( سورة النور الآية: 31 )
الباطنة مواضع القلائد والحلي، لذلك هناك نوعان لغض البصر عن العورة، وعن الزينة الباطنة.
من فوائد غض البصر: أن حلاوة الإيمان ولذته، والتي هي أطيب وأحلى مما تركه لله.
((مَا تَرَكَ عَبْدٌ لِلَّهِ أَمْرَاً لا يَتْرُكُهُ إِلاَّ لِلَّهِ إِلاَّ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ فِي دِيِنهِ وَدُنْيَاه))
[ أخرجه ابن عساكر عن ابن عمر ]
غض البصر: يورث نوراً في القلب وفراسة لا يتمتع بها ما يطلقون أبصارهم.
غض البصر: يورث قوة القلب وثباته وشجاعته.
غض البصر: من أهم الصفات التي يتحلى بها المؤمن، وتتولد من الحياء، وفيه راحة للنفس وللبدن، ويصون المحارم، ويجنب الوقوع في الزلل، ويجعل المجتمع المتحلي بهذه الصفة مجتمعاً آمناً متحاباً.
غض البصر: يصون المجتمع من انتشار الزنا.
العوام أجملوا كل هذا بكلمة: لا العين ترى، ولا القلب يحزن، الإنسان إذا أطلق بصره حجب عن الله عز وجل، فإن أراد أن تكون هذه الصلة قائمة فليغض البصر، والدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبة، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، والإنسان إذا قال: لا أستطيع فهو يرد كلام الله، لأن الله عز وجل يقول:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 286 )
ولولا أن غض البصر مِن وسعِ الإنسان لما كلفنا الله أن نفعله، مستحيل أن يكلفنا ما لا نطيق، لكن الإنسان يدعي أنه لا يستطيع، أما هو يستطيع.
ويا أيها الإخوة: أنا لا أصدق أن أرى كاتباً غربياً لا يعرف عن الدين شيئًا، هذا ( ألكسيس كاريل ) في كتابه: (الإنسان ذلك المجهول) يقول: إن أفضل منهج للبشر أن يقصروا طرفهم على زوجاتهم، يبدو أن الإنسان حينما يطبق نظام غض البصر يسعد المجتمع.
الآن كم من المشكلات، والفساد الأسري، والشقاق الزوجي، ومتاعب البيوت، أساسها إطلاق البصر ؟ بل إن الزوجين ينطبق عليهما هذا الحديث الشريف:
((ما توادا اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب أصاب أحدهما ))
إذا غض الإنسان بصره يجد الثمار اليانعة في بيته، ماذا يجد ؟ يجد مودة بينه وبين زوجته، يجدها في أعلى مطمح له، مع أنها قد تكون متوسطة، لكن الله عز وجل يصبغ عليها جمالاً يحصن زوجها عن غيرها، بسبب غض بصره، أما الذي يطلق بصره فلو أن عنده امرأة في أعلى مستوى يكرهها، من الذي يدخل بين الزوجين ؟ الشيطان، فإذا أذنب أحدهما فرق بينهما،
((ما توادا اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب أصاب أحدهما))
وهذا شيء بين أيديكم، غض بصرك، وانظر إلى بيتك، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((الحمد لله الذي رزقني حب عائشة))
عدا هذا من نعم الله الكبرى، أن يحب المرء زوجته، أما الآن لو دخلت - ولا أبالغ - مئة بيت مسلم فتسعون بالمئة من بين هذه البيوت ليس فيها مودة بين الزوجين، بسبب إطلاق البصر، هو وهي، إذا أطلق هو بصره، وأطلقت هي بصرها بقيت زوجته، وبقي زوجها، لكن الود الذي ينبغي أن يكون بين الزوجين لا تجده أبداً بسبب إطلاق البصر.
فغض البصر مدرسة، ولأنه مهم جداً ليس مغطًّى بحديث، لا، مغطى بآية، ما دام غض البصر احتل حيزاً في القرآن، الكتاب الذي نتعبد الله بتلاوته معنى ذلك القضية أساسية، ومركزية، ومفصلية، لكن نحن في زمن والعياذ بالله أينما التفت تجد المرأة في أبهى زينة، وكأنها في غرفة نومها، في أبهى زينة، وهذا من البلاء الكبير في هذا العصر لذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))
[ رواه البخاري ]
في المستقبل أتيح لك أن تعمل في مكان متعب، في سوق مزدحم، أو في مكان لإصلاح المركبات، وفي شارع تباع فيه حاجات النساء، والمحلات في أعلى درجة من الزينة، دينك يأمرك أن تكون في مكان بعيد عن النساء، لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام:
((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ))
[ متفق عليه عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ]
وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وأكبر مصيدة للشيطان المرأة، وعندك مصيدتان ؛ المال والمرأة، أكبر مصيدة للشيطان يوقع بها المؤمنين قضية المرأة، وقضية المال، فمن حصن نفسه من المرأة الحرام والمال الحرام نجا وسلم.
فالقضية تحتاج إلى جهد كبير، أما أن تتابع ما على الشاشة من مناظر تثير الحجر، وتقوم لتصلي العشاء فهذا شيء فوق طاقتك، هذا شيء لا يكون، أن تعطي نفسك ما تشتهي، وأن تعد نفسك من المؤمنين الصادقين، هذا شيء غير مقبول، فلابد من أن تبتعد عن أسباب الفتن، والآن وأنا أعني ما أقول أكبر سبب للفتنة المرأة في هذا العصر، لأن الدنيا كلها يصطادون المسلمون بها.
لذلك قال بعض العلماء: كان الأعداء يجبروننا بالقوة المسلحة على أن نفعل ما يريدون، الآن السياسة اختلفت، الآن يجبروننا بالقوة الناعمة، المرأة، على أن نريد ما يريدون، ففي الخمسينات إذا ضبط الابن وقد ذهب إلى السينما تقوم الدنيا في البيت ولا تقعد، أليس كذلك ؟ الآن كل بيت فيه ملهى ليلي، كل بيت، الدليل: اصعد إلى جبل قاسيون وانظر إلى سطوح المنازل، كل بيت فيه ملهى ليلي.
وأسأل الله لي ولكم السلامة، ونحن في رمضان الجهد فيه كبير، لكن الثمرة يانعة، وهذا هو الصدق مع الله عز وجل.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين