﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
الســؤال :
ما الفرق بين قوله تعالى :﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ﴾(الأعلى: 1) ، وقوله تعالى :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾(الواقعة: 74) ؟ وهل الباء في ( بِاسْمِ ) زائدة كما يقول جمهور النحاة والمفسرين ؟
الجــواب :
أولاً- أجاب الفرَّاء عن ذلك بقوله :« قوله عز وجل :﴿ سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ ، و﴿ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ كل ذلك جاء ، وهو من كلام العرب » . وتابعه في ذلك الإمام الطبري ، فقال :« العرب تدخل الباء أحيانًا في التسبيح ، وتحذفها أحيانًا » . واحتج بالآيتين السابقتين ، وبقوله : سبَّح بحمدِ الله ، وسبَّح حمدَ الله . وأعرب ابن خالويه لفظ ( اسم ) مفعولاً به ، ثم قال :« ولو قلت : سبح باسم ربك ، لكان صوابًا ؛ إلا أن القراءة سنة . ومثله : جزت زيدًا ، وجزت بزيد . وتعلَّقت زيدًا ، وتعلَّقت بزيد » . وقال أبو حيان :« ويظهر أن ( سبَّح ) يتعدى تارة بنفسه ؛ كقوله :﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ﴾ ، وتارة بحرف الجر ؛ كقوله :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ .. » .
وعلى ذلك يكون دخول الباء- هنا- وخروجها سواء ؛ لأنه لا يغيِّر المعنى ، ولا يخلُّ به ؛ ولهذا ذهب الشنقيطي إلى القول بأنها زائدة ، فقال :« والظاهر أن الباء في قوله :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ داخلة على المفعول . وعليه فالمعنى : فسبح اسم ربك العظيم ؛ كما يوضحه قوله في الأعلى :﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ﴾ .. » . ولكن الشنقيطي لم ينس أن يعلل لزيادة هذه الباء بأنها مؤكدَّة ، ثم قال :« وزيادة الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن ، وفي كلام العرب » . وعلى هذا القول جمهور العلماء .
ثانيًا- وحكى النحاس قول الفراء الذي بدأنا به ، ثم عقَّب عليه قائلاً :« إن كان قدَّر هذا على حذف الباء ، فلا يجوز : مررت زيدًا ، وإن كان قدَّره مما يتعدَّى بحرف وغير حرف فالمعنى واحد ، فليس كذلك ؛ لأن معنى ﴿ سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ : ليكن تسبيحك باسم ربك . وقد تكلم العلماء في معنى ﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ﴾ بأجوبة كلها مخالف لمعنى ما فيه الباء » .
وأظهر هذه الأجوبة وأبينها- كما قال النحاس- قول من قال :« المعنى : نزِّه اسم ربك الأعلى ، وبرِّئه من أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون ؛ لأنه الأعلى . أي : القاهر لكل شيء . أي : العالي عليه » .
ثالثًا- أما الشيخ السهلي- رحمه الله- فقد ذهب في كتابه ( نتائج الفكر في النحو ) إلى أن التسبيح ينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن يراد به : التنزيه والذكر دون معنى يقترن به . والثاني : أن يراد به المتضمن لمعنى الصلاة . فإذا كان المراد به التسبيح المجرَّد ، فلا معنى لدخول الباء ؛ لأنه لا يتعدى بحرف جر . وإذا كان المراد به المتضمن لمعنى الصلاة ، أدخلت الباء بعده تنبيهًا على ذلك المعنى .
فعلى هذا يكون معنى قوله تعالى ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ : صلِّ باسم ربك . أي : صلِّ مفتتحًا باسمه . وتابعه في هذا القول ابن قيم الجوزية- رحمه الله- في كتابه ( بدائع الفوائد ) .
رابعًا- إذا تأملت ما قدمنا من أجوبة ، وتدبرت الآيتين الكريمتين حق التدبر ، تبين لك أن أوْلى هذه الأجوبة بالصواب هو جواب النحاس الذي ذهب فيه إلى أن معنى قوله تعالى ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ : ليكن تسبيحك باسم ربك العظيم . أي : سبح ربك بذكر اسمه العظيم . أي : المنبىء عن عظمته جل جلاله ، وهذا قول الأخفش تلميذ سيبويه .
وعلى هذا تكون الباء باء الاستعانة ؛ وهي التي تدخل على آلة الفعل . وآلته- هنا- هي قوله تعالى ﴿ اسْمُ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ . فهذا الاسم هو آلة التسبيح . أي : سبِّح به ، وهو كقولك : اضرب بالسيف ، واكتب بالقلم . فإذا ثبت ذلك ، كان الفرق في المعنى ظاهرًا بين الآيتين الكريمتين . ولتوضيح ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
1- التسبيح في القرآن الكريم له معنى واحد ، لا ثاني له ؛ وهو تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله ، وإثبات ما يليق بجلاله وكماله ؛ لأن التسبيح- في اللغة- معناه : التبعيد من السوء ، وأصله في اصطلاح الشرع : المرُّ السريع في عبادة الله تعالى ؛ وهو من قولهم : سبَح في الكلام ، بالتخفيف ، إذا أكثر منه .. والتشديد فيه للمبالغة . ومن هنا ينبغي ألا نخلط بين التسبيح والصلاة من جهة ، وبينه وبين السجود من جهة أخرى ؛ كما فعل الشيخ السهيلي ، وابن قيم الجوزية ، رحمهما الله ، ومن قال بقولهما . وأما ما ذكر من إطلاق لفظ التسبيح على الصلاة ، فإنما المراد به صلاة التطوُّع والنَّافلة ، لا المفروضة . ومنه ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- من قولها في صلاة الضحى :« إني لأسبحها » . وهو كقولهم :« قضيت سُبْحَتي من الصلاة » . والسُّبْحَةُ من التسبيح ؛ كالسُّخْرة من التسخير . وإنما خُصَّت صلاة التطوُّع والنَّافلة بالسُّبْحَة ، وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح ؛ لأن التسبيحات في الفرائض نوافلُ ، فقيل لصلاة النَّافلة : سُبْحَة ؛ لأنها نافلة ؛ كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة .
وقد تكرر ذكر السُّبْحَة في الحديث كثيرًا ؛ فمن ذلك الحديث :« اجْعَلوا صلاتَكم معهم سُبْحَة » . أي : نافلة . ومنه الحديث :« كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبِّح حتى تُحَلَّ الرِّحال » . أراد : صلاةَ الضُّحَى . يعني : أنهم كانوا مع اهتمامهم بالصلاة ، لا يباشرونها حتى يَحُطُّوا الرِّحال ، ويريحوا الجمال ، رفقًا بها وإحسانًا . والسُّبْحَة أيضًا هي خَرَزات يُسَبَّح بها .
أما تفسيرهم للتسبيح بمعنى الصلاة المفروضة فهو من باب التجوُّز ، ولم يقتصروا في ذلك على التسبيح المقترن بالباء ؛ وإنما تعداه إلى غيره ؛ ولهذا نجدهم يفسرون التسبيح في أغلب المواضع بمعنى : الصلاة ، وإن لم يكن مقترنًا بالباء ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾(مريم: 11) . قال الرازي :« اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح : الصلاة ، وهو جائز في اللغة » . وكذلك فسروا التسبيح المقترن باللام بمعنى : الصلاة ؛ كما في قوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴾(النور:36). قال الرازي :« اختلفوا في معنى التسبيح فيه ؛ فالأكثرون حملوه على معنى : الصلاة » .
2- يستعمل التسبيح في القرآن الكريم على وجهين : أحدهما : أن يكون مطلقًا . والثاني : أن يكون مقيَّدًا .
الوجه الأول : فأما التسبيح المطلق فهو الذي يُعَدَّى إلى المفعول بنفسه ؛ نحو قولك : سبَّح اللهَ . ومنه قوله تعالى :﴿ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾(الأعراف: 206) . أي : ويسبحون ربك . وقوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾(الأعلى: 1) .
فالتسبيح في قوله :﴿ وَيُسَبِّحُونَهُ ﴾ ، وقوله :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ تسبيح مطلق . الأول : عُدِّيَ إلى ضمير الاسم ﴿ رَبِّكَ ﴾ . والثاني : عُدِّيَ إلى لفظ الاسم ﴿ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ . ومن الفروق بين التسبيحين :
أ- أن الأول يقع على المسبَّح ، وهو المسمَّى ﴿ رَبِّكَ ﴾ ؛ لأن المراد به تنزيه ذات الله جل جلاله . وأما الثاني فيقع على الاسم والمسمَّى معًا ﴿ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ ؛لأن المراد به تنزيه الاسم أولاً ، وتنزيه المسمَّى ثانيًا .
ب- أن الأول تسبيح بالجنان ، والثاني تسبيح باللسان والجنان ؛ لأن التسبيح نوع من الذكر . والذكر- على الحقيقة- محله القلب ؛ لأنه ضدُّ النِّسيان . فلو قيل : سَبِّحْ ربك ، لما فهم منه إلا التسبيح القلبي . ولمَّا كان المراد من التسبيح في آية
الأعلى : التسبيح باللسان والجنان ، جيء بلفظ الاسم تنبيهًا على هذا المعنى ، حتى لا يخلو التسبيح من اللفظ باللسان ، فصار معنى الآية : نزِّه اسم ربك بلسانك وقلبك مما نسبه إليه المشركون ؛ لأنه الأعلى .
الوجه الثاني : وأما التسبيح المقيَّد فهو الذي يُعَدَّى إلى المفعول باللام ؛ كقولك : سبَّح لله . ومنه قوله تعالى :﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾(الحديد: 1) . أي : سبح لله وحده ، لا لغيره . فالتسبيح- هنا- مختصٌّ بذات الله جل جلاله . وهذا ما دلَّت عليه لام الاختصاص .
أما قوله تعالى :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ فهو من النوع الأول ( التسبيح المطلق ) الذي يُعَدَّى إلى المفعول بنفسه ؛ لأن معناه : نزِّه ربك بذكر اسمه المنبىء عن عظمته . والباء فيه للاستعانة ، وما دخلت عليه هو آلة التسبيح .
وعلى هذا يكون الفرق بين قوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ أن التسبيح في الأول واقع على ( اسم ربك الأعلى ) . أي : على الاسم والمسمَّى معًا ؛ لأنهما مفعول التسبيح . أما التسبيح في الثاني فواقع على المفعول المقدَّر . أي : على المسمَّى فقط ؛ لأن ( اسم ربك العظيم ) هو آلة التسبيح ، والمعنى : سبِّح ربك بذكر اسمه المنبىء عن عظمته . والأول تسبيح باللسان والجنان ، والثاني تسبيح باللسان فقط .
ومثل ذلك يقال في ( الباء ) الداخلة على الحمد ، في نحو قوله تعالى : ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾(النصر: 3) ؛ لأن المعنى- على حد قول النحاس- :« ليكن تسبيحك بحمد ربك » ، وعلى حد قول الأخفش :« لتكن سبحتك بالحمد لله » ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر- بعد نزول سورة النصر- من قوله :« سبحانك اللهم ، وبحمدك ، أستغفرك ، وأتوب إليك » . أي : وبحمدك أسبحك ؛ كما قال تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾(الإسراء: 44) . ولو قيل : وإن من شيء إلا يصلي بحمده ، لكان غثًا من الكلام يأباه النظم الصحيح ، والمعنى الفصيح .. والله تعالى أعلم بأسرار بيانه !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك