هل صعد الإنسان إلى القمر؟
قال الله عز وجل :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾(الرحمن: 33- 36)
أولاً- صعود الإنسان إلى القمر وهبوط أول عالم أمريكي على سطحه أثار جدلاً بين علماء الغرب ؛ فمنهم مصدق ، ومنهم مكذب ، وقد كتب المهندس عبد الدايم الكحيل في موقعه ( أسرار الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ) مقالاً بهذا الخصوص عالج فيه هذه المسألة وما أثير حولها من جدل ، تجدونه على الرابط الآتي :
http://www.kaheel7.com/modules.php?name=News&file=article&sid=888وانتهى من ذلك إلى القول :
« إن هبوط الإنسان على سطح القمر هو حقيقة لا مفر منها ، ولا تتنافى مع قوله تعالى :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾(الرحمن: 33) . فالإنسان لم يستطع الخروج خارج أقطار السماء ، بل لازال ضمن حدود مجموعته الشمسية ، وكل ما فعله أنه تجول في الفضاء لمسافة قريبة جداً ! وبالطبع لم ينكر هذه الحقيقة إلا قلة من الباحثين غير المعترف عليهم علمياً ، بل لا توجد أي وكالة فضاء عالمية أنكرت مثل هذا الأمر ، بل هو من باب الدعاية فقط » .
ثانيًا- قال صاحب ( أضواء البيان ) ، عند تفسير قول الله عز وجل :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾(الحجر: 16- 18) ، قال :
« صرح تعالى في هذه الآية أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم ﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾ ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾(الصافات: 7) ، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك: 5) ، وقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9) ، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212) ، وقوله :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38) ، إلى غير ذلك من الآيات .
والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله :﴿ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾(الحجر: 18) قال بعض العلماء : هو استناء منقطع ، وجزم به الفخر الرازي . أي : لكن من استرق السمع . أي : الخطفة اليسيرة ، فإنه يتبعه شهاب فيحرقه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات: 8-10) . وقيل : الاستثناء متصل . أي : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئًا من الوحي وغيره ؛ إلا من استرق السمع ، فإنا لم نحفظها من أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي . فأما الوحي فلا تسمع منه شيئًا ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212) . قاله القرطبي ، ونظيره :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ﴾(الصافات: 10) الآية ، فإنه استثناء من الواو ، في قوله تعالى :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ ﴾(الصافات:
الآية .
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتشدق به أصحاب الأقمار الصناعية ، من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها . ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين ﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾(الملك: 4) . ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ ﴾(البقرة: 14) الآية ، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾(الأنعام: 112) ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :« الكلب الأسود شيطان » ، وقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي ... وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولاً أولياً ؛ لعتوهم وتمردهم . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان كائنًا من كان ، في عدة آيات من كتابه ؛ كقوله هنا :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ ، وقوله :﴿ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾(فصلت : 12) ، إلى غير ذلك من الآيات . وصرح بأن من أراد استراق السمع ، أتبعه شهاب راصد له ، وشهاب مبين ، وثاقب ، في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9) ، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين ﴾(الحجر: 18) ، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات: 10) ، وقال :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212) ، وقال :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38) ؛ وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا .
وقال :﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِي الأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب ﴾(ص: 10- 11) ؛ فقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ فِي الأَسْبَابِ ﴾ . أي : فليصعدوا في أسباب السموات التي توصل إليها . وصيغة الأمر في قوله :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ ﴾ للتعجيز . وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا . وقوله جل وعلا بعد ذلك التعجيز :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب ﴾ يفهم منه أنه لو تستطيع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء أنه يرجع مهزومًا صاغرًا داخرًا ذليلاً . ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه جل وعلا لذلك الجند بلفظة { ما } في قوله :﴿ جُندٌ مَّا ﴾ وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله :﴿ هُنَالِكَ ﴾ ، ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه إلا الارتقاء في أسباب السموات .
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا ، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء ؛ بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم ، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم ، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة ؛ ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام ، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل ، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سال عليًّا رضي الله عنه : هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ قال له علي رضي الله عنه :« لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة » الحديث . فقوله رضي الله عنه :« إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتاب الله » يدل على أن فهم كتاب الله تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس ..
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً ﴾( نوح: 15- 16) ، فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق ، وأن الله حفطها من كل شيطان رجيم ، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء ، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك ، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك ؛ كسقف البيت .. لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق ؛ لأن القمر في قوله :﴿ وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً ﴾( نوح: 16) راجع إلى السبع الطباق » .
ثالثًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : أيصدق الإنسان المؤمن ما يقوله علماء وكالة ناسا الفضائية للأنباء وغيرها من وكالات الفضاء العالمية ، أم يصدق ما نصت عليه آيات الذكر الحكيم ؟
وأما عن الآية التي بدأنا بها ، والتي استشهد بها المهندس الكحيل على أن الإنسان لم يستطع الخروج خارج أقطار السماء ، بل لازال ضمن حدود مجموعته الشمسية ، وكل ما فعله أنه تجول في الفضاء لمسافة قريبة جدًا ؛ وهي قوله تعالى :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾(الرحمن: 33) .. أقول : هذه الآية مسوقة لبيان أن الجن والإنس لا يقدرون على الخلاص من جزاء الله وعقابه يوم القيامة ، وإعلام الضالين والمضلين منهم على وجه الحصوص بأنهم في قبضة الله عز وجل ، لا يجدون منجى منها .
والنداء ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ موجه إليهم يوم القيامة ، خلافًا لما ذهب إليه بعضهم من أنه موجه إليهم في الدنيا ، وأن المعنى : إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السموات والأرض ، فانفذوا لا تنفذوا إلا بالعلم . والأقطار : جمع قُطْر ، بضم القاف وسكون الطاء ، وهو الناحية الواسعة من المكان الأوسع . والأمر ﴿ فَانْفُذُوا ﴾ للتعجيز ، ونفي الفعل ﴿ لَا تَنْفُذُونَ ﴾ أبدي مقيد بالسلطان . والسلطان : القوة والقهر . وذكر السماوات والأرض ؛ لتحقيق إحاطة الجهات كلها تحقيقًا للتعجيز . ومعنى الآية : يا معشر الجن والإنس ! هذه هي السموات والأرض أمامكم ، فإن استطعتم أن تخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فرارًا من قضائي ونفوذ مشيئتي ، فافعلوا . ثم نفى عنهم الفعل إلا بسلطان ، وهم عنه بألف معزل وألف منزل . وقدم الجن على الإنس هنا ؛ لأن الله عز وجل أعطاهم القدرة على النفوذ من أقطار السموات والأرض ، وكانوا قبل نزول الوحي يسترقون السمع من السماء ، ثم منعوا من ذلك .
وعدد سبحانه وتعالى لهم الجهات ؛ لأن تعددها يسهل لهم الهروب من إحداها ، إن كان لديهم القدرة ، وأنَّى لهم ذلك ! ونحوه قوله تعالى :﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾(العنكبوت: 22) . ويؤيد هذا المعنى سياق الآيات ، وما روي من أن الملائكة - عليهم السلام - ينزلون يوم القيامة ، فيحيطون بجميع الخلائق ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهًا إلا وجدوا الملائكة قد أحاطت به .
وقال صاحب ( أضواء البيان ) في تفسير هذه الآية :« وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى ، من أن قوله جل وعلا :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾(الرحمن: 33) يشير إلى الوصول إلى السماء ، بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية ؛ وإذًا ، فإن الآية قد تكون فيها دلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السموات والأرض ، مردود من أوجه :
الأول : أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله جل وعلا أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم ؛ وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة ، فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم ، ويقال لهم في ذلك الوقت :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ الآية . والسلطان : قيل : الحجة والبينة . وقيل : الملك والسلطنة . وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة ، فلا نفوذ لهم ؛ كما قال تعالى : ﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّا ﴾(الفجر: 22) ، وقال :﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾(غافر: 32- 33) .
الوجه الثاني : أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السموات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء ؛ كما صرح به تعالى في قوله عنهم :﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾(الجن: 9) الآية ؛ وإنما منعوا من ذلك حين بعث صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال تعالى :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9) . فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي ، فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله ، لم يقل جل وعلا :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ ﴾ ؛ لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم .
الوجه الثالث : أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية على الله جل وعلا من أن يطلق عليه اسم السلطان ؛ لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ، ولا نظر فيه ألبتة لما بعد الموت ؛ ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة . وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله جل وعلا :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ﴾(الزخرف: 33) ، إلى قوله :﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(الزخرف: 35) . وعملُ هؤلاء الكفار نفى الله عنه اسم العلم الحقيقي ، وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا ؛ وذلك في قوله :﴿ وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ ﴾(الروم: 6-7) ...
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن ذلك المعنى - المزعوم كذبًا - هو معنى الآية ، فإن الله أتبع ذلك بقوله :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ﴾(الرحمن: 35) الآية ، فهو يدل على ذلك التقرير على أنهم لو أرادوا النفوذ من أقطارها ، حرقهم ذلك الشواظ والنحاس . والشواظ : اللهب الخالص . والنحاس : الدخان » .
وانتهى صاحب ( أضواء البيان ) من ذلك إلى القول :« واعلم ، وفقني الله وإياك ، أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة ؛ وإنما فيه فساد الدارين ، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه ، نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ ﴾(الأنفال: 60) ..
فإن قيل : هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في حفظها من استراق السمع ؛ وذلك إنما يكون من شياطين الجن ، فدل على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن ؟ فالجواب :
أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار . قال في لسان العرب : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان . وقال في القاموس : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة . ولا شك أن من أشد الكفار تمردًا وعتوًّا الذين يحاولون بلوغ السماء ، فدخولهم في اسم الشطان لغة لا شك فيه . وإذًا ، لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات ؛ فقوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 17) صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنًا من كان . وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها ، أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ؛ كما هو مقرر في الأصول . وحفظ السماء من الشياطين معناه : حراستها منهم . قال الأزهري في صحاحه : حفظت الشيء حفظًا . أي : حرسته . وقال صاحب لسان العرب : وحفظت الشيء حفظًا . أي : حرسته . وهذا معروف في كلام العرب ؛ فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة ﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 17) . أي : وحرسناها . أي : السماء من كل عات متمرد . ولا مفهوم مخالفة لقوله :﴿ رَّجِيمٍ ﴾ ، وقوله :﴿ مَّارِدٍ ﴾(الصافات: 7) ؛ لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة ؛ فكل شيطان يوصف بأنه رجيم ، وبأنه مارد ، وإن كان بعضهم أقوى تمردًا من بعض . وما حرسه الله جل وعلا من كل عات متمرد لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنًا من كان ﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾(الملك: 4) .. والعلم عند الله تعالى » .
رابعًا- ومع اعتراف الشيخ عبد العزيز ابن باز – رحمه الله - بأن الآية التي ابتدأنا بها والتي اتخذ منها المهندس الكحيل دليلاً على إمكانية الصعود إلى القمر وغيره من الكواكب ، وهي قوله تعالى :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾(الرحمن: 33) ، أقول : مع اعترافه بأن هذه الآية ليست واضحة الدلالة على إمكان الصعود إلى الكواكب ؛ لأن ظاهرها وما قبلها وما بعدها - كما قال - يدل على أن الله سبحانه أراد بذلك بيان عجز الثقلين عن النفوذ من أقطار السماوات والأرض ، وأن المراد بالسلطان فيها سلطان القوة ، وأنه لا حجة فيها لمن قال : إنها تدل على إمكان الصعود إلى الكواكب ، وإن المراد بالسلطان : العلم ، وأن خطاب الثقلين فيها هو خطاب لهم يوم القيامة ، فقد كتب مقالاً ذكر فيه ( الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب ) ردًّا على من أنكر ذلك ، أو كفر قائله ، وهو يقصد بقوله الشيخ المرحوم محمد أمين الشنقيطي ؛ لأنه ذكر الآيات التي استشهد بها الشيخ الشنقيطي – رحمه الله - على عجز شياطين الإنس والجن عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء ، وقال بتكفير القائلين به . وهذه الآيات هي قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾(الحجر: 16- 18)
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾(الفرقان: 61) .
﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات: 6 - 10) .
﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾(الملك: 5) .
﴿ أ َلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾( نوح: 15- 16) .
وعقب الشيخ ابن باز على هذه الآيات بقوله :« وظنوا أن ما ذكره الله في هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها يدل على أن الكواكب في داخل السماء أو ملصقة بها ، فكيف يمكن الوصول إلى سطحها ؟ » .
وأجاب الشيخ عن ذلك بقوله :« والجواب أن يقال : ليس في الآيات المذكورات ما يدل على أن الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب في داخل السماء ، ولا أنها ملصقة بها ؛ وإنما تدل الآيات على أن هذه الكواكب في السماء ، وأنها زينة لها » .
ثم قال :« ويحتمل أنه أراد بالسماء في الآيات المتقدمة : السماء الدنيا ، كما هو ظاهر في آية الحجر ، وهي قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾(الحجر: 16) ، وصريح في آية الملك ، وهي قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك: 5) ، ولم يرد سبحانه أن البروج في داخلها ؛ وإنما أراد سبحانه أنها بقربها وتنسب إليها ؛ كما يقال في لغة العرب : فلان مقيم في المدينة ، أو في مكة ؛ وإنما هو في ضواحيها وما حولها .
وأما قوله سبحانه في سورة نوح :﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15- 16) ، فليس في الآية ما يدل على أن معناه أن الشمس والقمر في داخل السموات ؛ وإنما معناه عند الأكثر : أن نورهما في السموات ، لا أجرامهما . فأجرامهما خارج السموات ، ونورهما في السموات والأرض » .
والشيخ الشنقيطي – رحمه الله - عندما استشهد بهذه الآيات على عجز الثقلين عن الوصول إلى الكواكب ، لم يقل : إن الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب في داخل السماء ، أو هي ملتصقة بها ؛ وإنما قال كما قال الله تعالى : إن هذه الكواكب في السماء ؛ ولكنه لم يفهم منها ما فهمه الشيخ ابن باز من أن الله سبحانه لم يرد أن الشمس والقمر والبروج في داخلها ؛ وإنما أراد سبحانه أنها بقربها وتنسب إليها .. وأن نورها في السموات لا أجرامها .. وليس شيء أخطر على كلام الله تعالى من أن يقال : قال الله كذا ، وإنما أراد كذا . وكأن القرآن الكريم كتاب طلاسم ، وليس كتاب بيان وهدى .. سبحانه ، وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرا . لنسمع ما قاله الشيخ الشنقيطي عند تفسير قول الله عز وجل :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15) ، قال :
« واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق ؛ لأن لفظة { َجَعَلَ } في الآية هي التي بمعنى صيَّر ، وهي تنصب المبتدأ والخبر . والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر ، فقولك : جعلت الطين خزفًا ، والحديد خاتمًا ، لا يخفى فيه أن الطين هو الخرف بعينه ، والحديد هو الخاتم ، وكذلك قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ﴾ ؛ فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه ، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق ، وكون المجعول فيها مطلق نوره ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل :{ وجعل نور القمر فيهن } . أما قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ﴾ فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر ، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه .
ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61) ، وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾(الحجر: 16- 17) .. » .
وقال في موضع آخر :« وقد قدمنا في سورة الحجر أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنيَّة ، لا السماء التي هي مطلق ما علاك ؛ لأن الله بين في سورة الحجر أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة ، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾(الذاريات: 47) ، وقوله :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾(النبأ: 12) ، وليست مطلق ما علاك ، والبيان المذكور في سورة الحجر في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 16-17) ؛ فآية الحجر هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة لا مطلق ما علاك » .
وانتهى الشيخ الشنقيطي – رحمه الله - من ذلك إلى القول :« وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه جل وعلا في آية الفرقان هذه بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ؛ لأنه قال هنا :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61) ؛ وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك . وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم » .
وليس بعد هذا البيان بيان ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾(ق: 37) . فكيف يقال بعد ذلك في تفسير قول الله عز وجل :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾(الحجر: 16) :« لم يرد سبحانه أن البروج في داخلها ؛ وإنما أراد سبحانه أنها بقربها وتنسب إليها » ؟ وكيف يقال في تفسير قوله سبحانه :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾(نوح: 15) :« إن نورهما في السموات لا أجرامهما ، فأجرامهما خارج السموات ، ونورهما في السموات والأرض » ؟ وأي لغة تلك التي يقال فيها عن رجل كان قرب المدينة أو حولها : إنه في المدينة ؟ وأي لغة تلك التي يقال فيها عن سراج ملأ نوره الغرفة : إن نوره في الغرفة ، وهو خارجها ؟
ومن أغرب ما جاء في مقال الشيخ ابن باز – رحمه الله - قوله :« ومما يدل على إمكان الصعود إلى الكواكب : قول الله سبحانه في سورة الجن ، فيما أخبر به عنهم :﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾(الجن: 8- 9) . فإذا كان الجن قد أمكنهم الصعود إلى السماء حتى لمسوها وقعدوا منها مقاعد ، فكيف يستحيل ذلك على الإنس في هذا العصر الذي تطور فيه العلم والاختراع حتى وصل إلى حد لا يخطر ببال أحد من الناس ، حتى مخترعيه قبل أن يخترعوه ؟ » .
هاتان الآيتان الكريمتان واضحتا الدلالة على عجز الإنس والجن عن الصعود إلى الكواكب ، فكيف تكونان دليلاً على إمكان صعود الإنس إليها ؟ أولئك الجن الذين أعطاهم الله تعالى القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السموات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء ، سلبهم الله سبحانه تلك القدرة ، ومنعهم من استراق السمع حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9) ، ﴿ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين ﴾(الحجر: 18) ، ﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات: 10) ، ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212) ، ﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38) . فإن دلت هذه الآيات على شيء ، فإنما تدل على عجز البشر قبل عجز الجن عن الصعود إلى السموات عجزًا مطلقًا .
ومما يدل على اضطراب أقوال الشيخ ابن باز – رحمه الله - وتناقضها قوله في نهاية مقاله :« أما السماوات المبنية فهي محفوظة بأبوابها وحراسها ، فلن يدخلها شياطين الإنس والجن » . واستشهد على ذلك بقوله تعالى :
﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾(الأنبياء: 42) ، وقوله تعالى :
﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾(الحجر: 17) .
وكأن الشيخ – رحمه الله – نسي أنه أورد الآية الثانية من هاتين الآيتين مع الآيات التي قال فيها :« ليس في الآيات المذكورات ما يدل على أن الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب في داخل السماء ، ولا أنها ملصقة بها ؛ وإنما تدل الآيات على أن هذه الكواكب في السماء ، وأنها زينة لها » . وبالتالي فإنه - كما قال – « لم يجد في هذه الآيات ما يدل دلالة صريحة على عدم إمكان الوصول إلى القمر ، أو غيره من الكواكب » .
فكيف يكون قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾(الحجر: 16- 17) مرة دليلاً على إمكانية الوصول إلى الكواكب ، ويكون مرة أخرى دليلاً على عدم إمكانية الوصول إلى تلك الكواكب ؟ ثم إذا كان المراد بالسماء في هاتين الآيتين السموات المبنية ، المحفوظة بأبوابها وحراسها من شياطين الإنس والجن ، فلم لا يكون المراد بالسماء في قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾(الفرقان: 61) السماء المبنية المحفوظة ؟
ثم ما الفرق بين قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾(الأنبياء: 42) ، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك: 5) ، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾(الصافات: 6 -
حتى تكون الأولى منها دليلاً على عدم إمكانية الوصول إلى الكواكب ، وتكون الثانية والثالثة دليلاً على إمكانية الوصول إليها ، وكلها ينص على أن السماء محفوظة ؟ نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يتدبرون القرآن ، ويحسنون فهمه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثير .
بقلم : محمد إسماعيل عتوك