مثل محمد وأصحابه في التوراة والإنجيل
قال الله تعالى :﴿ مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا ﴾{ الفتح : 29 }
أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة الفتح ، وهي سورة مدنية , نزلت في السنة السادسة من الهجرة , عقب صلح الحديبية الذي تمَّ بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمشركين ، والذي كان بدايةً للفتح الأعظم : فتح مكة المكرمة ، وما تلاه من فتوح كثيرة ، وبه تمَّ العزُّ والنصر والتمكين للمؤمنين ، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ؛ ولهذا سمَّاه الله جل وعلا : فتحًا مبينًا ، فقال سبحانه مفتتحًا هذه السورة المباركة :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾{ الفتح : 1- 3 } .
وقد سمِّيت السورة المباركة بهذا الاسم ؛ لاستهلالها بذكر ذلك الفتح المبين الذي يسَّره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو صلح الحديبية الذي رأى فيه غالبية المسلمين تنازلاً لكفار مكة ، حتى قال عمر- رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم :« أَلَسْتَ برسول الله ؟ قال : بلى ! قال : أَوَلسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ! قال : أَوَ ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ! فقال عمر : فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا ؟ فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قائلاً : أنا عبد الله ورسوله , لن أخالف أمره , ولن يضيِّعني » . قال ابن هشام :« فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرًا » . وحين نزلت السورة ، قال عليه الصلاة والسلام في رواية :« نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها » . وفي رواية أخرى :« لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس » .
وفي المستدرك على الصحيحين : لما اجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم من الحديبية ، قرأ عليهم :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسولَ الله ! أَوَ فتحٌ هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم :« إي , والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح » .
وأعقب هذا الافتتاح ، الذي حمل للرسول صلى الله عليه وسلم البشرى بالفتح المبين ، الامتنانُ على المؤمنين بالسكينة , والاعترافُ لهم بالإيمان السابق ، وتبشيرُهم بالمغفرة والثواب , وعونُ السماء بجنود الله . ذلك مع ما أعدَّه لأعدائهم من المنافقين والمنافقات ، والمشركين والمشركات ، من غضب وعذاب . ثم تلا ذلك التنويه ببيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة - رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله حتى الموت ، وكانت بيعةً جليلة الشأن ؛ ولذلك باركها الله تعالى ، ورضي عن أصحابها ، وسجلها في كتابه العظيم بأسطر من نور .
ويتناول سياق الآيات بعد ذلك الحديث عن الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب الذين في قلوبهم مرض ، ومن المنافقين الذين ظنوا الظنون السيئة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فلم يخرجوا معهم ، فجاءت الآيات تفضحهم وتكشف سرائرهم .
ثم تحدثت السورة عن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، وحدَّث بها أصحابه ، ففرحوا واسبشروا ؛ وهي دخوله عليه الصلاة والسلام مكة ومعه المسلمون ، محلقين رؤوسهم ومقصرين ، وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخولها , حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية , ويضعون السلاح فيها ، ويستعظمون القتال في أيامها ، والصد عن المسجد الحرام ، حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه ، فلا يرفع في وجهه سيفًا , ولا يصده عن البيت المحرم ، ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن ، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة ، حتى كان العام السادس الذي رأى صلى الله عليه وسلم فيه هذه الرؤيا .
وقد تحققت تلك الرؤيا الصادقة ، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه معتمرين مع الأمن والطمأنينة ، مستبشرين بوعد الله تعالى لهم بالنصر على أعدائهم ، وإعلامه لهم بإظهار هذا الدين الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم على جميع الأديان .
وتختم السورة المباركة بالثناء العطر على رسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أصحابه الأخيار ، وترسم لهم صورة وضيئة مشرقة تميِّزهم عن غيرهم من البشر ، وتفردهم بسمتها الخاصة ، وهي الصورة التي رسمت لهم من قبلُ في التوراة والإنجيل ، وتنوه بوعد الله الكريم لهم بالمغفرة ، والأجر العظيم :
﴿ مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا ﴾
بهذا الثناء العطر على تلك الجماعة الفريدة التي رضي الله عنها , وبلغها رضاه فردًا فردًا ، وبهذه الصورة الوضيئة المشرقة التي رسمها القرآن بأسلوبه البديع لواقع الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تختم السورة المباركة .
ثانيًا- وتبدأ الآية الكريمة بإثبات صفة النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ مُحَمّدٌ رَسُولُ الله ﴾ .. هذه الصفة التي أنكرها المشركون ، حين ردوا على المؤمنين العهد المكتوب في صلح الحديبية ، وقالوا :« لا نعلم أنه رسول الله ، فلا تكتبوا : محمد رسول الله ، بل اكتبوا : محمد بن عبد الله » . وأكثر المفسرين على أنه جملة استئنافية مبينة لما قبلها ، وهي مؤلفة من مبتدأ وخبر . ثم استؤنف قوله تعالى :﴿ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ .. ﴾ .
وقيل :﴿ مُحَمّدٌ ﴾ مبتدأ ، و﴿ رَسُولُ الله ﴾ صفة له ، و﴿ الّذِينَ مَعَهُ ﴾ معطوف على المبتدأ ، و﴿ أَشِدّاءُ ﴾ خبر عن الجميع ، و﴿ رُحَماءُ ﴾ خبر بعد خبر ، وجملة ﴿ تَرَاهُمْ ﴾ خبر ثالث .
ففي القول الأول اخْتصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه ، والذين معه اختصُّوا بوصفهم . وفي القول الثاني اشترك الجميع في صفة الشدة ، وما تلاها من صفات .. والظاهر أن القول الثاني هو أرجح القولين ، ويؤيِّده قراءة ابن عامر :﴿ رَسُولَ ﴾ ، بالنصب على المدح . أو الاختصاص ، وهي قراءة تؤيِّد كونَه- في حالة الرفع- تابعًا ، لا خبرًا .
والمراد بـ﴿ الّذِينَ مَعَهُ ﴾ أصحابه كلهم لا خصوص من شهد معه الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة ، وإن كانوا هم المقصودون ابتداء ، فقد عرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، وفازوا برضى الله تعالى ، ذلك الرضى الذي أخبر الله عنه بقوله :﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾{ الفتح : 19 } .
وفى وصفهم بأنهم :﴿ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ﴾ مدح عظيم لهم ؛ فهم يظهرون لمن خالفهم في الدين الشدة والصلابة ، ولمن وافقهم فيه الرحمة والرأفة . وقد جمع سبحانه وتعالى بين الوصفين على سبيل الاحتراس ؛ فهم ليسوا أشداء مطلقًا ، ولا رحماء مطلقًا ؛ وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإخوانهم في العقيدة . أي : هم غلاظ أقوياء كالأسود ، لا تأخذهم في أعدائهم رأفة ، وهم متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض كالوالد مع ولده .
والمراد بالكفار هنا العموم ، ويدخل فيه كفار بني إسرائيل دخولاً أوليًّا ، فهم الذين كانوا أول الكافرين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورفض دينه والكيد له ؛ ولهذا خاطبهم الله تعالى بقوله :﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾{ البقرة : 41 } . والأولوية المنصوص عليها- هنا- للأهمية ، وليست للزمنية ، حيث كان كفار قريش قد سبقوا اليهود كفرًا بالقرآن .
وقدَّم سبحانه وتعالى صفة الشدَّة على صفة الرحمة ؛ لأن أفراد الجماعة المؤمنة ، إن أرادوا أن يتصدوا للكفر والطغيان ، ينبغي عليهم أن يتمتعوا قبل كل شيء بصفة الشدة في اتخاذ المواقف الثابتة الحازمة ، دون ارتخاء أو تهاون ، وألا يتعاطوا تمامًا مع أهل الكفر على قاعدة التسويات .
وعن الحسن قال :« بلغ من تشدُّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرَّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمَسَّ أبدانَهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه » .
وكذلك كانت صفة محمد نبيهم أكمل النبيين، وأفضل الرسل، عليه وعليهم الصلاة والسلام ، حيث قال :« أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا نبي الرحمة ، وأنا نبي الملحمة ، وأنا نبي التوبة ، وأنا الضحوك القتال » .
بهذه الصفات الجليلة وصف عليه الصلاة والسلام نفسه ، وأما ربه سبحانه فقد وصفه بقوله :﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾{ التوبة : 128 } . ثم وصف سبحانه المؤمنين بقوله :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾{ المائدة : 54 }. وصفهم بالرحمة للمؤمنين والذلة لهم ، والشدة على الكفار والعزة عليهم ؛ وذلك لأن لله تعالى أمرهم جميعًا بالغلظة على الكفار، فقال سبحانه مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾{ التوبة : 73 } . وقال سبحانه مخاطبًا المؤمنين :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾{ التوبة : 123 } . ومن حق المسلمين أن يراعوا هذا التشدٌّد ، وهذا التعطُّف في كل زمان ومكان ، فيتشدَّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة .
و﴿ أَشِدَّاءُ ﴾ جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين . وقراءة الجمهور :﴿ أَشِدَّاءُ ﴾ ، و﴿ رُحَماءُ ﴾ ، بالرفع فيهما ، وروى قرَّةُ عن الحسن– رضي الله عنه- :﴿ أَشِدَّاءَ ﴾ ، ﴿ رُحَماءَ ﴾ ، بنصبهما على المدح ، أو على الحال ، وجملة ﴿ تَرَاهُمْ ﴾ الخبر .
ومع ما عُرِفَ به المؤمنون من الشدة والغلظة على الكفار ، والرحمة والرأفة فيما بينهم :﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ﴾ . أي : تراهم يكثرون من الركوع والسجود ، والمحافظة على الصلوات . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم ؛ ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ، فعبر عنها تعبيرًا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ، وهم في ركوع وسجود :﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ .
فهذه هي صورة مشاعرهم الثابتة ، وتلك هي صورة هيئتهم الدائمة . كل ما يشغل بالهم ، وتتطلع إليه نفوسهم هو التقرب إلى الله تعالى بالعبادة ، والظفر بمغفرته ورضوانه ، ولا شيء وراء ذلك يشتغلون به ويتطلعون إليه . وهذه الرغبة قد ظهرت أثارها على محياهم من أثر استغراقهم في العبادة ، فلا خيلاء ولا غرور ، بل التواضع والخضوع والخشوع لله سبحانه ، وإشراقة نور الإيمان على محيَّاهم :﴿ سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ﴾ .
والسيما مقصورة ، والسيماء ، ممدودة : العلامة ، وهي ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الوضاءة والإشراق والصفاء نهارًا . وقيل : السيما هي صفرة الوجه من خشية الله . وعن الضحاك : ليس بالندب في الوجوه ، ولكنه صفرة . وعن عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل . وفي الحديث : قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم :« لكم سيما ليست لغيركم من الأمم ؛ تأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِينَ من آثار الوضوء » . رويت في هذا الحديث بالمدِّ والقَصْر . فهذه سيماهم يوم القيامة من آثار الوضوء ، وتلك سيماهم في الدنيا من آثار السجود .
وقال تعالى في صفة الفقراء :﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾{ البقرة : 273 } ، فجعل للفقراء سيما من التواضع وأثر الجهد ، يعرفون بها . وقال في صفة المنافقين :﴿ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾{ محمد : 30 } ، فجعل للمنافقين سيما أيضًا من النفاق . وقال سبحانه في صفة المجرمين :﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾{ الرحمن : 41 } ، فجعل لهم علامات تظهر عليهم ، يعرفون بها ؛ كاسوداد الوجه ، وزرقة العيون ؛ كما يعرف المؤمنون بسيماهم من آثر السجود ، وأثر الوضوء .
وهذه السيما في وجوه المؤمنين من أثر السجود ليست هي العلامة المعروفة في الجبهة- كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله تعالى :﴿ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ﴾- لأن المراد بأثر السجود : أثر العبادة . وإنما اختير لفظ السجود ؛ لأنه يمثل حالة الخشوع والعبودية لله في أكمل صورها . أخرج ابن أبي حاتم عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ﴾ ، قال :« الخشوع . قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه . فقال : ربما كان بين عينيْ من هو أقسى قلبًا من فرعون ».
وعن بعض المتقدّمين قال :« كنا نصلي ، فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن يصلي ، فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندري أثقلت الأرؤس ، أم خشنت الأرض ؟! » . وإنما أراد بذلك من تعمَّد ذلك للنفاق .
ثالثًا- وبعد أن انتهى الله عز وجل من رسم تلك الصورة الوضيئة التي تناولت أبرز حالات هذه الجماعة المختارة الظاهرة والمضمرة ، أشار إليها سبحانه بقوله تعالى :﴿ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ ﴾ ، ثم ابتدأ بقوله تعالى :﴿ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا ﴾ .
فقوله تعالى :﴿ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ ﴾ إشارة إلى ما تقدم من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام . أي : ذلك الوصف الذي ذكروا به في القرآن هو مثلهم في التوراة . أما ﴿ مَثَلُهُمْ في الإِنْجِيلِ ﴾ فهو ﴿ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطْأهُ .. ﴾ ؛ فهما مثلان ، لا مثل واحد : أحدهما في التوراة ، والآخر في الإنجيل . والمثلان- كما هو ظاهر- مختلفان ، واختلافهما من وجهين : أحدهما : من حيث الشكل . والثاني : من حيث المضمون .
1- أما اختلافهما من حيث الشكل فالمثل الأول يقوم على المماثلة التامة بين ما ذكر من وصفهم في التوراة ، وما ذكر من وصفهم في القرآن . فالوصفان متطابقان ، والأول أصل ، والثاني فرع مأخوذ من الأصل ، ومنتزع منه ؛ لأن الصورة الوضيئة التي رسمها الله تعالى في القرآن الكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام ، ليست صورة مستحدثة ؛ وإنما هي صورة ثابتة لهم في لوحة القدر ، ومن ثَمَّ فهي قديمة ، جاء ذكرها في التوراة ، وعرفها بنو إسرائيل ، وبشَّر الله تعالى بها أهل الأرض جميعًا قبل أن يجيئوا إليها ؛ فهي بذلك أصل ، والفرع يُنتزَع من الأصل عندما يتعذر وجود مثيل له في الواقع .. والمثل الثاني يقوم على التشبيه التمثيلي ، وهو تشبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه .
والأول يقال فيه : هذا مَثَلُ هذا ، وهو مماثلة بين وجودين خارجين محسوسين . والثاني يقال فيه : مَثَلُ هذا كهذا ، وهو تمثيل بين وجود ذهني معقول ، ووجود خارجي محسوس ؛ ولهذا جيء بلفظ المثل في طرف المشبه دون المشبه به ، وما بينهما وجه شبَهٍ دلت عليه كاف التشبيه .
2- وأما اختلافهما من حيث المضمون فـ﴿ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ ﴾ يهدف إلى إبراز الصفات النوعية الثابتة التي اتصف بها محمد عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه الكرام ، وميزتهم عن غيرهم من الأمم ؛ إذ جعلت منهم خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون المنكر ، ويؤمنون بالله ، وهي صفات لها علاقة عميقة بالداخل الإنساني أكثر مما له علاقة بالأوضاع الخارجية للجماعة المؤمنة .
وأما المثل الآخر :﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ .. ﴾ فهو مثل ضربه سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه- رضي الله عنهم- قلُّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، فترقَّى أمرهم يومًا فيومًا بحيث أعجب الناس ، وهو مثل يهدف إلى إبراز الآثار الخارجية ، والمظاهر الحضارية التي أبدعها محمد صلى الله عليه وسلم مع الذين معه ؛ وذلك لما كانوا يتمتمون به من فعالية وحضور ، ومن تجذُّر عمودي في الأرض ، وامتداد واتساع أفقي فيها ، وما هم عليه من حيوية فعالة تصل الذروة ، وتتجلَّى عَبْرَ ما تركوا على أرض الواقع من إنجازات حضارية تشعر الذين يتمتعون بالذائقة الحضارية بقدر كبير من الإعجاب ، وتكون مدعاة للاقتداء ، وفي الوقت ذاته تكون مصدر حقد وغيظ للكافرين الذين لا يدركون كيف تتحقق مثل هذه الإنجازات الفريدة ؛ إذ يجهلون متطلبات تحققها ، وأهميتها في الإقبال على التعرف على منتجيها ، وحضارتهم ، ودينهم .
وهذا التمييز ما بين المثلين ومحتواهما مقصود ؛ لأجل تحديد أسلوب التعامل مع كل من أهل التوراة ، وأهل الإنجيل ، ويجعل مضمونهما فاعلين بإطلاق في كل الظروف ، وبالأدق في الظروف المقبلة لعصر النزول . فقد جاء المثلان في سياق قرآني متصل من التنبؤات ، مفتوح على المستقبل ، مما يحدد طبيعة المثلين بأن لهما علاقة بالمستقبل أكثر مما لهما علاقة بلحظة نزول الآية . فالسورة كلها- عنوانها وموضوع ومحورها- تدور حول فتح مكة ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه قد اصطدموا بعدُ بأهل الإنجيل وموقفهم من القرآن .
لقد أتى المثلان في إطار إظهار ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ؛ ليظهره على الدين كله ؛ وذلك بعد هزيمة الشرك والمشركين ، وتصديق الله سبحانه رسوله الرؤيا التي أراها إياه سابقًا بإدخاله المسجد الحرام ، وفتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجًا ، في سياق متصل من التنبؤات ، ومتسع من الوقائع . وهذا ما يكشف الطابع المستقبلي لمحتوى هذه الآيات ، وإطلاق هذا الطابع على امتداد الزمن في علاقة المؤمنين مع كل من أهل التوراة ، وأهل الإنجيل .
رابعًا- وننظر في المثل الثاني فنرى أن الله تعالى شبه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالزرع الذي أخرج شطأه .. والشطء هو أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض . وشاطىء الشيء هو حافته . والزرع يبدأ بذرة هامدة في الثرى ، فإذا أصابها الماء ، اهتز كيانها ، ودبَّ دبيب الحياة فيها ، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها ، تحاول جاهدة أن تصافح النور ، وأن تلتمس لها طريقًا إليه من بين هذا الظلام المطبق عليها ، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة ؛ وإذ بشيء أخضر صغير ، يطل على الحياة ، ثم لا يلبث أن يقوى ، ويخرج آخر مثله يؤازره ، ثم ثالث ، ورابع .. وهذا هو الشطء ، وجمعه شطآن . وشيئًا فشيئًا تنمو هذه الشطآن وتعلو ، ويتخلق لها ساق تقوم عليه ، وأوراق تكسو هذا الساق ، وفروع وأغصان وأزهار وثمار حتى يكون من ذلك كله نخلة باسقة ، أو دوحة عظيمة ملتفة الأغصان كثيرة الثمار ، أصلها ثابت في الأرض ، وفرعها في السماء !!
وهكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تخرجوا من مدرسته ، بدؤوا بذرة كهذه البذرة التي طال حبسها عن الأرض ، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع ، فغرسها في الأرض وساق إليها الماء وتعهدها بالرعاية والري ، طالت وانداحت ، ثم أزهرت وأثمرت ، وملأت وجه الأرض المغبرة خيرًا وحسنًا ، وبهجة وجمالاً ، تعجب الزراع بحسن نباتها وكثرة خيراتها .
فالزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشطء هم أصحابه- رضي اللّه عنهم- فيكون مثلاً له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه ، لا لأصحابه فقط ، كانوا قليلين فكثروا ، وضعفاء فقووا . وحين بدأ عليه الصلاة والسلام بالدعوة بدأ وحيدًا ، فأجابه أصحابه الواحد بعد الآخر ، وأيدوه ونصروه ، حتى قوي بهم واشتد عوده ، ثم أخذوا في النمو حتى استحكم أمرهم ، وامتلأت القلوب إعجابًا بعظمتهم ، فكان مثله عليه الصلاة والسلام مع أصحابه كهذا الزرع المعجب مع شطئه .
وقوله تعالى :﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ﴾ إشارة إلى هذا الزرع الطيب الذي يملأ العين سرورًا ورضى ، وهو في الوقت نفسه يملأ قلوب الكفار حسدًا وحسرة ، ونفوسهم غيظًا . وهكذا جعلهم الله تعالى أداة لإغاظة أعداء الله !
وإنما مثَّلهم الله تعالى بالزرع الذي أخرج شطأه ؛ ليدل به على كثرتهم وقوتهم وتماسكهم ، بعد قلة وضعف وتفرق . وفيه دلالة أيضًا على أن لكل واحد منهم ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل .. إنه تمثيل عجيب ، وتصوير فني بديع ، يستمد عناصره من الطبيعة ، فيصل إلى نهاية الإبداع وقوة التأثير ؛ إذ يجعل الغائب مشاهدًا ، والخفي واضحًا جليًّا ، ويقرب المراد من العقل ، ويرفع الأستار عن الحقائق ، ويعرض المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر ، يجعل القارىء ، وكأنه أمام مشهد يفيض بالحركة والحياة .
والتمثيل القرآني بهذه الخصائص الفنية التي لا توجد في غيره يعد من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم ، فأسلوبه يعجز أساطين البيان عن محاكاته ، ونظمه فوق طاقة البشر ، وتركيبه لا يقدر عليه إلا الله الذي خلق الإنسان ، وعلمه البيان .
3333هذا هو مثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الإنجيل ، وذاك مثلهم في التوراة ، وهما مثلان في غاية الروعة والبيان ، وكلاهما ثابت في صفحة القدر ، ومن ثَمَّ ورد ذكرهما في التوراة والإنجيل قبل أن يجيء محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى هذه الأرض .
رُوِيَ عن الكلبي أنه قال : بعثت قريش إلى اليهود، وسألوهم عن بَعْث محمد وشأنه ، فقالوا :« إنا نجده في التوراة بنعته وصفته » . وأخرج ابن إسحاق ، وأبو نعيم في ( الدلائل ) ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال :« كتب رسول الله إلى يهود خيبر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله صاحب موسى ، وأخيه المصدِّق لما جاء به موسى .. ألا إن الله قد قال لكم : يا معشر أهل التوراة ! إنكم تجدون ذلك في كتابكم :﴿ مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ .. ﴾ » .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه وابن المنذر عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في معنى قوله تعالى :﴿ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ .. ﴾ ، قال :« يعني : مكتوب في التوراة ، والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض » .
وقال قتادة :« مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوم ينتبون نباتًا كالزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر » .
وفي حق الصحابة الأخيار قال ابن مسعود- رضي الله عنه- :« من كان منكم متأسِّيًا ، فليتأَسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا ، وأعمقها علمًا ، وأقلها تكلفًا ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً ، قومًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم » .
وقال ابن كثير :« فالصحابة- رضي الله عنهم- خلصت نياتهم ، وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم . وقال مالك- رضي الله عنه- : بلغني أن النصارى كانوا ، إذا رأوا الصحابة- رضي الله عنهم- الذين فتحوا الشام ، يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظَّمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد نوَّه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة ، والأخبار المتداولة ».
فما كان خبرًا غيبيًّا في التوراة والإنجيل ، عمَّا سيكون عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين يوجدون ، قد تحقق وصار واقعًا حسيًّا مشهورًا ، ومشهودًا له من قبل كل من رآهم ، أو سمع عنهم ، فكانوا بذلك مثار الإعجاب إلى حد الدهشة .
هؤلاء هم عناصر الجيش الإسلامي صهرهم الإيمان والإخلاص للواحد الفرد الصمد ، فتراحموا فيما بينهم ، وإذا لقوا الكفار أذاقوهم بأسًا مرًّا . ولقد تكاملوا بالإيمان شيئًا فشيئًا ، وصنع الله بعضهم من بعض ، فلا ينفذ إلى صفوهم وهن أو تفريق ؛ كما يتكامل النبات خلية حتى يصير زرعًا ناميًا معطاء ، فإذا الجذور والساق والأوراق والأنسجة واللحاء والقشرة يعين بعضها في استقلال تام عن الأجسام القريبة . إن هذا لهو المثل الحق لجيش الإسلام ، فمتى يخرج المسلمون جيشًا مثله ؟
محمد إسماعيل عتوك